للأستاذ عباس محمود العقاد
روى صاحب الطبقات الكبرى روايات كثيرة عن سن النبي عليه السلام يوم وفاته، فروى عن أنس بن مالك أنه عليه السلام توفي وهو ابن ستين سنة، وروى عن الأسود بن عامر بسنده أنه عليه السلام بعث وهو ابن أربعين ومات وهو ابن ستين ، وتعددت الروايات التي تقول بهذه السن ، كما تعددت الروايات التي تقول بثلاث وستين سنة، وجاء في رواية عن ابن عباس أنه توفى في الخامسة والستين.
وعرض المؤرخون لسن عمر بن الخطاب فذكر ابن قتيبة أنه رضي الله عنه مات في الخامسة والخمسين ، وروى عامر بن سعد أنه مات في الثالثة والستين..
وعرضوا لسن عمرو بن العاص فقال النووي إنه مات في السبعين، وقال الليث بن سعد والهيثم بن عدي والواقدي وابن بكير أنه مات وسنه مائة سنة، وقال أحمد العجلي وغيره تسع وتسعون سنة. وقال السيوطي وغيره تسعون!
هذه روايات المؤرخين الثقات لتواريخ الميلاد في الجاهلية، وأي ميلاد؟
ميلاد صاحب الدعوة الإسلامية التي بدلت وجه الدنيا بعد أن بدلت وجه البلاد العربية؛ وميلاد خليفة من أشهر خلفاء الإسلام وأشهر حكام العالم كله على إطلاقه؛ وميلاد قائد كبير وسياسي خطير فتح مصر وفلسطين وأقام مع بني أمية أول دولة ذات عرش في تاريخ الإسلام
وذلك هو مبلغ اليقين من تواريخ ميلاد هؤلاء الأعلام، ومن تقدير أعمارهم جميعاً في يوم الوفاة: فرق خمس سنوات في عمر النبي! وفرق ثماني سنوات في عمر الخليفة! وفرق ثلاثين سنة في عمر القائد الكبير
ونقترب من وجهتنا فنروي أقوال المؤرخين عن سن السيدة أم رومان زوج أبي بكر الصديق وأم السيدة عائشة رضى الله عنهما ، جاء في الإصابة: (قال أبو عمر كانت وفاتها فيما زعموا في ذي الحجة سنة أربع أو خمس عام الخندق، وقال ابن الأثير ست. . . . والخبر الذي ذكر ابن سعد وأخرجه البخاري في تاريخه عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة. . . . عن علي ابن زيد بن جدعان عن القاسم بن محمد قال: لما دليت أم رومان في قبرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى هذه. . . وقال أبو نعيم الأصبهاني قيل إنها ماتت في عهد رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم وهو وهم. . . وقال إبراهيم الحربي سمع مسروق عن أم رومان وله خمس عشرة سنة، ومقتضاه أن يكون سمع منها في خلافة عمر، لأن مولده سنة إحدى من الهجرة، إلى آخر ما جاء في ترجمة أم رومان)
وذلك هو مبلغ المؤرخين من تحقيق سن سيدة أصبحت زوج الخليفة الأول وحماة النبي عليه السلام.
ونقترب أيضاً من وجهتنا فنروى ما جاء في الاستيعاب عن سن السيدة فاطمة الزهراء إذ يقول: (كانت هي وأختها أم كلثوم أصغر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف في الصغرى منهما ، وقد قيل إن رقية أصغر منها، وليس ذلك عندي بصحيح ، وقد ذكرنا في باب رقية ما نبين به صحة ما ذهبنا إليه في ذلك، ومضى في باب زينب وباب خديجة من ذلك ما فيه كفاية. وقد اضطرب مصعب والزبير في بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيتهن أكبر وأصغر اضطراباً يوجب أن لا يلتفت إليها. . .)
ونروى ما جاء في الإصابة حيث يقول: (واختلف في سنة مولدها ، فروى الواقدي من طريق ابن جعفر الباقر قال العباس: ولدت فاطمة والكعبة تبنى والنبي صلى الله عليه وسلم ابن خمس وثلاثين سنة وبهذا جزم المدائني ، ونقل أبو عمر بن عبيد الله ابن محمد بن سليمان بن جعفر الهاشمي أنها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان مولدها قبل البعثة بقليل نحو سنة، وهي أسن من عائشة بنحو خمس سنين)..
ومعنى هذا أننا إذا أخذنا بقول العباس، وهو أولى الناس أن يؤخذ بقوله في ذرية النبي عليه السلام، فهناك فرق يبلغ ست سنوات بين سن عائشة كما يرويها بعضهم وسنها كما تخلص لنا من هذا الحساب ..
وجاء في ترجمة زينب رضى الله عنها كما رواها صاحب الإصابة: (هي أكبر بناته وأول من تزوج منهن، ولدت قبل البعثة بمدة قيل إنها عشر سنين، واختلف هل القاسم قبلها أو بعدها، وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن ربيع العبشمي. . .)
فقد بلغ الاختلاف إذن في ترتيب الأعمار أن لا يعلم على التحقيق من السابق ومن التالي من البنين والبنات، وفي ذلك ما يأذن بفرق سنتين أو ثلاث سنوات..
رأينا هذا التفاوت البعيد في رواية أعمار النابهين والنابهات فوقفنا موقف الحذر من كل رواية تخالف المعقول والمألوف ولا داعي للجزم بها دون سائر الروايات ، ورأينا أن التفاوت على هذا النحو في سن السيدة عائشة غير بعيد بل هو أقرب من ذلك إلى الاحتمال، لأن مولد السيدة عائشة ليس أولى بالتحقق من مولد النبي أو مولد عمر أو مولد أبناء النبي وبناته، ولأن الرواة هنا لا يفضلون الرواة هناك، ولأن الاختلاف واقع فعلاً بين سبع وتسع سنوات عند الخطبة. وجاء ابن هشام فقال: (وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر الصديق بمكة وهي بنت سبع سنين، وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين أو عشر)
واخترنا رواية العباس التي يضاف فرقها إلى هذه السن فترتفع إلى الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة ، وقابلنا بين الأعمار وبين مناسبات الزواج فعلمنا أن السيدة خولة بنت حكيم اقترحت الزواج على النبي صلوات الله عليه بعد وفاة السيدة خديجة لأنها رأته في بيته على حال وحشة فقالت: (أي رسول الله! ألا تزوج؟ فسألها من؟ قالت إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً). . . وهي بالبداهة لا تقترح عليه في تلك الحالة خطبة بنت في السادسة أو ما دونها ليتم الزواج بعد حين ، وعلمنا أيضاً أن السيدة عائشة كانت مخطوبة قبل ذلك لجبير بن مطعم وهو مشرك، فلما خطبها النبي عليه السلام قالت أم رومان زوج أبي بكر: إن مطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط فأخلفه، فدخل أبو بكر على مطعم ابن عدي وعنده امرأته أم الصبي فقالت:
يا ابن أبي قحافة! لعلك مصبئ صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك؟) فانفسخت الخطبة على أثر هذا الحديث ، علمنا هذا فأضفناه إلى ما تقدم وخلصنا منه إلى أن السيدة عائشة كانت أكبر من سنها المروية يومذاك (لأنها إما أن تكون قد خطبت لجبير بن مطعم بعد أن بلغت سن الخطبة وهي قرابة التاسعة أو العاشرة، وبعيد جداً أن تنعقد الخطبة على هذا التقدير مع افتراق الدين بين الأسرتين، وإما أن تكون وعدت لخطيبها وهي وليدة صغيرة كما يتفق أحياناً بين الأسر المتآلفة، وحينئذ يكون أبو بكر مسلماً عند ذلك، ويستبعد جداً أن يعد بها فتى على دين الجاهلية. . .)
قلنا ذلك لم يخف علينا حين قلناه إن الزواج قد جمع بين المسلمات والمشركين في أوائل عهد الدعوة المحمدية ، ولكننا كنا نعلم مع هذا أنه الاستثناء وليس بالقاعدة الشائعة المحمودة، وأنه حصل في أحوال خاصة لا يقاس عليها، وسرعان ما تبدل الموقف فيها حين تبدلت تلك الأحوال، فزينب بنت النبي عليه السلام قد تزوجت ابن خالتها وكانت أول من تزوج من بناته؛ ولعلها تزوجت قبل الدعوة قياساً على الخلاف المتقدم في الأعمار والتواريخ، وما هو إلا أن تيسر للنبي أن يفرق بينها وبين زوجها حتى بادر إلى التفرقة بينهما بعد جهد جهيد..
والظاهر الواضح من المناسبة التي نزلت في صددها آيات التحريم القاطع لنكاح المشركين والمشركات أن هذا الزواج كان بغيضاً إلى نفوس المسلمين ولما تنزل بعد هذه الآيات، فقد جاء في رواية أنها نزلت في أبي مرثد الغنوي وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين سراً، فسمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق كانت خليلته في الجاهلية، فأتته فقالت: ألا نخلو؟ فقال: ويحك يا عناق! إن الإسلام حال بيني وبين ذلك؟ فقالت له: هل لك أن تتزوج بي؟ قال: نعم. ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استأمره فلما قضى حاجته بمكة وأنصرف إلى رسوا الله أعلمه بما كان من أمره ومن أمر عناق وسأله: أيحل لي أن أتزوجها؟ فنزلت هذه الآية)
وورد في قول آخر أنها نزلت لأن عبد الله بن رواحة تزوج أمةَ له وفضلها على المشركات ذوات الأحساب، فلغط بزواجه من الأمة بعض أصحابه فنزل القرآن ينصفه من لائميه (. . . ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم)..
وظاهر واضح من كلتا المناسبتين أن زواج المسلم بالمشركة كان موضع تردد وتساؤل قبل نزول الآيات فضلاً عن زواج المسلمة بالمشرك، وفضلاً عن السعي إلى زواج المسلمة بالمشرك قبل بلوغ السن بسنوات كأنه غنيمة يخشى أن تفوت!
ومع هذا لو كانت خطبة جبير بن مطعم قد تمت بعد ظهور الدعوة المحمدية فما الذي جد حتى عادت أمه تخاف من دين أبي بكر على دين ولدها؟ ألم يكن أبو بكر مسلماً وكان الخوف على الخطيب أولى وأحرى وهو طفل صغير؟ أليس هذا وحده كافياً لترجيح الخطبة قبل الدعوة كما قلنا في كتاب (الصديقة بيت الصديق). . .؟
لذلك كله رجحنا أن السيدة عائشة تجازوت الثانية عشرة ولم تنقص عنها يوم زفت إلى النبي عليه السلام..
وكان في وسعنا أن نقف عند الأرقام المترددة ونريح أنفسنا فلا نفند شيئاً من المزاعم التي بناها بعض المبشرين والمستشرقين على تقدير السن عند الزواج بالتاسعة أو ما دونها، وقد كان لها من الأثر في عقول أبناء هذا الجيل ما يعلمه كل ذكي لبيب،كان ذلك في وسعنا ولا جهد فيه علينا، ولكننا وصلنا بالقرائن المعقولة والمقابلة السائغة إلى تصحيح السن على وجه لا يأذن لأحد بالتمحل والانتقاد، ولم نتوسل إلى ذلك بإنكار آية أو حديث أو أصل من أصول الدين، ولكننا تناولنا السنوات والتواريخ بالشك الذي تستحقه، وهي تتسع في أشيع الروايات لفرق السنة والسنتين والعشر والثلاثين. . . فماذا في هذا كله من دواعي التهويل والصريخ؟ وما سر الاستماتة في تخطئة هذا التصحيح والإصرار على أن السيدة عائشة تزوجت في السابعة أو التاسعة ولم تتجاوزها، مع إن النص المكتوب - ولا نذكر القياس والاستنتاج - قد زادها إلى عشر سنين؟
أما دواعينا نحن فهي تلك الأسباب وتلك القرائن وكلها مما يوافق التنزيه الواجب لمقام الرسول ، وأما دواعي المنكرين التي دعتهم إلى تسجيل تلك السن دون غيرها فعليهم هم أن يبينوها وينظروا أينا أقرب إلى البر بالإسلام، وأحرص على تعظيم نبيه عليه السلام.
المصدر : مجلة الرسالة المصرية ـ العدد 565