بقلم : شروق جواد
لقد تناول هذا البحث سمة (العدل) للنبي يعقوب عليه السلام في تعامله مع أبنائه، ردًا على ادعاء بعض الكتاب: أن يعقوب عليه السلام، كان يؤثر يوسف على إخوته في المحبة؛ لصغر سنه، ولأنه يتيم الأم، لأنه عرف ما سيكون عليه يوسف من شأن...إلخ.
لكن رؤية تحليلية للآيات الحوارية التالية تقودنا إلى استدلال نظرة أخرى للشكل العلائقي الذي ربط يعقوب بيوسف عليهما السلام، وروابطه مع باقي بنيه.
ونبدأ بأولى الآيات الحوارية للنبي يعقوب في سورة يوسف، التي استخدم فيها مفردة (يا بُني) التي تفصح عن الترفق والتلطف في المعاملة في رده على يوسف حين قص عليه الرؤيا: }قال يا بني لا تقصص رؤياك...{ (يوسف: 5)، ثم نراه يستخدم المفردة ذاتها مع إخوة يوسف رغم علمه بمكرهم ليوسف من قبل، ورغم حزنه لعدم عودة الأخ الصغير معهم من مصر، حيث يقول: }يا بني لا تدخلوا...{ (يوسف: 67)، وأيضًا: }يا بني اذهبوا فتحسسوا..{ (يوسف: 87)، الأمر الذي يشير إلى أن الترفق بأسلوب الخطاب كانت سمة ثابتة لازمته مع أبنائه على السواء.
كما نستقرئ الرفق في خطابه معهم حتى حين يتوقع تكذيبهم إياه وهو النبي والأب فيقول لهم: }... إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون{ (يوسف: 94)، فلم يقل لهم مثلاً (أعلم أنكم ستفندون)، وإذا كان هذا هو حال عدل يعقوب في الحوار مع أبنائه، فلننظر إلى عدله في مشاعر الخوف عليهم جميعًا أيضًا ودونما أي تمييز، فكان خوفه على يوسف يتجلى واضحًا عندما طلب من إخوته أن يرافقهم يوسف في اليوم التالي، حيث أجابهم: }.. أخاف أن يأكله الذئب..{ (يوسف: 13)، ثم تصور آيات أخرى مشاعر خوفه على إخوة يوسف أيضًا - ونكرر رغم حزنه على ما فعلوه بيوسف - فنتبين ذلك من خلال نصيحته لهم بدخول أبواب متفرقة خوفًا عليهم أن تصيبهم عين عائن بسوء أو أذى، فكما جاء في تفسير ابن كثير: (إنه خشي عليهم العين، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة، ومنظر وبهاء، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم - فإن العين حق، تستنزل الفارس عن فرسه )؛ بل إنه يقدم نصيحته هذه بترفق فنراه يقول لهم عليه السلام: }يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة...{ (يوسف: 67)، وإذا ما استقرأنا نصيحته هذه لبنيه، ونصيحته من قبل ليوسف: (يا بني لا تقصص رؤياك..) لوجدنا كلا الخطابين يبدأ بمفردة (يا بني)، مع اختلاف الجمع والإفراد فقط لاختلاف المتلقي، فأسبق بها - صيغتي النهي - لتضفي على الجملتين صفة النصيحة بترقق.
تحليل الحوار لأبناء يعقوب جميعًا
بعد الاستقراء السابق لتلك الآيات التي تفيد بعدالة يعقوب مع بنيه على حد سواء، تعرض الباحثة استقراء آخر في علاقة الأبناء جميعًا مع أبيهم يعقوب، والمتمثلة بأسلوب تعامل يوسف مع أبيه من ناحية، ثم أسلوب تعامل إخوته مع أبيهم من الناحية الأخرى، ثم ننظر ما يفضي إليه استقراء الأسلوبين.
فالآيات الحوارية التالية تفصح عن نوع الأسلوب الحواري الذي اتبعه يوسف عليه السلام في خطابه مع أبيه، فنراه يقول له حين يقص عليه رؤياه في بداية السورة: }إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت..{ (يوسف: 4)، فينادي أباه بمفردة (أبتِ) التي تفصح عن التأدب والتودد في مناداة أبيه، وإن بدأت قصة يوسف بهذه المفردة حين كان غلامًا، فإنها قد ختمتها أيضًا حين خاطب أباه بها بعد أن صار رجلاً ونال ما ناله من عز وجاه، حيث قال مخاطبًا إياه بعد سجود إخوته له: }وقال يا أبتِ هذا تأويل رؤياي من قبل..{ (يوسف: 100)، مما يدل على ملازمة سمة البر والتودد في شخص النبي يوسف نحو أبيه، فلم ينقصها شيء من غرور بسبب منصبه العالي في مصر أو بسبب سجود إخوته جميعًا له.
وترى الباحثة من الأهمية هنا أن نعرض سريعًا أهمية مفردتي (أبتِ) و(بُني) في القرآن الكريم، وإلى الأشخاص الذين ارتبطت بهم لاستكمال الفكرة، إذ إن لورود هاتين المفردتين في القرآن الكريم دلالات معنوية تشير إلى سمو ورقي لغة الحوار بين الأبناء والآباء الذين يتمتعون بشخصية سليمة وصحة نفسية تدل عليها مفرداتهم كما يدل عليها سلوكهم الذي تنبئ عنه الآيات نفسها فهي تشير إلى بر الابن بأبيه وتأدبه معه، وإلى ترفق الأب بابنه، وما الحوار الذي دار بين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلا خير شاهد على ذلك، والذي تجسده الآية الكريمة: }فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين{ (الصافات: 102)، فترفق إبراهيم بابنه يبدو جليًا هنا في شخصيته، ولاسيما حين ابتدأ طلبه من ابنه بمفردة (يا بني)، وهي الشخصية ذاتها المتكاملة التي نستدل عليها في مواقف أخرى لإبراهيم عليه السلام لكن مع أبيه هذه المرة - رغم كفره وعبادته للأصنام - حيث جاء في الآية الكريمة: }إذ قال إبراهيم لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا{ (مريم: 42)، ويقول: }يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطًا سويًا{ (مريم: 43)، ويقول أيضًا: }يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيًا{ (مريم: 44)، ثم يقول: }يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليًا{ (مريم: 45)، حيث كرر إبراهيم عليه السلام كلمة (أبت) قبل أفعال الأمر جميعها، فجردتها من صفة الأمر ووشحتها بالترجي والتمني، كما يظهر رقي الحوار بأسلوب السؤال لأبيه، حيث قال: }لِمَ تعبد{ ولم يقل: «ما لك لا تعبد» (وهو الأسلوب الحواري الذي استخدمه إخوة يوسف كما سيأتي لاحقًا)، وهو أيضًا لم يقل لأبيه: (ليمسنك عذاب من الله)، أو توعده به رغم يقينه بأن عذاب الله تعالى هو جزاء الكافرين، بينما استخدم إخوة يوسف لغة التوعد مع أبيهم بقولهم: }قالوا تالله تفتؤ.. حتى تكون..{ (يوسف: 85)، كما سيرد، وكذا كان الحال باستخدام إبراهيم عليه السلام كلمة (يمسك) ولم يستخدم (يصبك) التماسًا للترقق والتأدب في الحديث، وحين يفضي الحوار إلى دون جدوى مع أبيه، نجده يختمه بالسلام عليه ويفصح له عن عزمه على الاستغفار له: }قال سلام عليك سأستغفر لك ربي..{ (مريم: 47).
كما كان استخدام مفردة (أبتِ) من قبل ابنة شعيب عليه السلام، التي يعكس حوارها شخصية ذات حكمة وقدرة على استقراء الحاضر واستشراف المستقبل، كما أفصح عن برها بأبيها، فقد سألت أباها أن يستأجر موسى عليه السلام لِما استقرأته من صفات شخصية تميز بها عن غيره، ويتجلى ذلك في الآية الكريمة: }يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين{ (القصص: 26).
وعودة إلى قصة يوسف عليه السلام، فقد كشفت لنا استقراء الآيات السابقة أن البر والتأدب سمتان لازمتا خطاب يوسف مع أبيه، فإن الآيات الحوارية التالية تفصح عن نوع الأسلوب الحواري الممنهج لإخوته في خطابهم مع أبيهم منذ بداية السورة وحتى نهايتها؛ إذ تبدأ قصتهم في الآية بقولهم: }... إن أبانا لفي ضلال مبين{ (يوسف: 8)، التي يوجهون فيها تهمة الضلال المبين إلى النبي والأب دونما تورع أو أدنى وازع، بينما كان نداؤهم المباشر لأبيهم منذ بداية السورة وحتى ختامها باستخدام لفظة (يا أبانا) فهم لم يستخدموا أسلوب نداء يظهر التأدب لأبيهم كما حرص على ذلك يوسف عليه السلام، كما أن العبارات التالية التي ضمنوها حواراتهم المباشرة مع أبيهم، تعكس بجلاء سمتي العقوق والجحود في تعاملهم مع أبيهم، فجاء في الآية: }قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا...{ (يوسف: 11)، وربما كان الألطف أن يقولوا مثلاً: (لمَ لا تأمنا) كما قال جدهم إبراهيم لأبيه: (لم تعبد...) كما بينا.
كذلك يفصح استخدامهم فعل الأمر المباشر عند طلبهم منه مرافقة يوسف لهم فقالوا: }أرسله معنا...{ (يوسف: 12) بينما رأينا فيما تم عرضه كيف استخدم يعقوب لفظة (يا بني) قبل استخدامه أي فعل أمر معهم، أما العبارات التالية التي تخاطبوا فيها بشكل مباشر مع أبيهم فتنبئ بوضوح عن تجرد شخصياتها من أدب الحوار العام فكيف الحال بالحوار مع الأب والنبي؟! }... وما أنت بمؤمن لنا..{ (يوسف: 17)، }قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضًا أو تكون من الهالكين{ (يوسف: 85)، }قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم{ (يوسف: 95)، ولم يقتصر استخدام هذا النهج في حوارهم المباشر فقط مع أبيهم، وإنما كان ذلك ديدنهم أيضًا عندما تحدثوا عنه غيابًا لما وصلوا مصر، بقولهم: }قالوا سنراود عنه أباه..{ (يوسف: 61)، كذلك كان قولهم: }قالوا يا أيها العزيز إن له أبًا شيخًا كبيرًا..{ (يوسف: 78)، و}..ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ...{ (يوسف: 80)، و}ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق...{ (يوسف: 81)، فكأن هذه العبارات توشي بنزعتهم للتبرؤ من أبيهم، أو عن نزعة استعلائية لأنفسهم عنه، وأيًا كان الدافع فهو لا يخرج عن إطار جحود أبيهم، إذ كان الأولى أن يقولوا: سنراود عنه أبانا، إن لنا أبًا، ألم تعلموا أن أبانا، ارجعوا إلى أبينا... إلخ، كما أن عباراتهم ومفرداتهم التالية، تؤكد ما يذهب إليه هذا الاستقراء: «إن ابنك سرق»، ولم يقولوا (إن أخانا سرق)، و(تكون حرضًا)، (وتكون من الهالكين)، والمعلوم أن الحرض هو ما لا يعتد به ولا خير فيه.
من جانب آخر، وباستخدام التقييم لفحص عباراتهم الأولى في القصة: }إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة...{ (يوسف: 8)، نرى وكأنهم يعترضون على ذلك لا لشيء لكن لكونهم عصبة، فكأنهم يقولون بنظرة استعلائية نحن خير من يوسف وأخيه لأننا عصبة وهما اثنان فقط، وقد يؤيد هذا تكرارهم عبارة: (نحن عصبة) مرة أخرى حين خشي أبوهم أن يأكل الذئب يوسف.
الاستنتاج
بعد استقراء وتقييم الحوارات والمفردات التي نصت عليها الآيات الكريمة في سورة يوسف ومقارنتها بآيات قرآنية في سور أخرى، يتكشف لنا أن الفرضية التي أقام على أساسها إخوة يوسف حجتهم بقتل يوسف أو إبعاده، كانت تهمة باطلة صاغوها وتحدثوا بها لتبرير فعلهم أمام أنفسهم كوسيلة من وسائل الدفاعات النفسية لتخفيف الضغط الذاتي، وما إتهامهم ليوسف بالسرقة حين لم تعد تربطهم به أية علاقة تنافسية؛ بل لم يكونوا يعلمون إن كان ميتًا أو لا يزال حيًا، كما جاء في الآية: }قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل...{ (يوسف: 77) إلا تأكيد على اتجاههم النفسي النمطي على تلفيق التهم والأباطيل لتصريف شحناتهم النفسية.
وبعد الانتهاء من هذا العرض، تجد الباحثة من الضرورة التعريج سريعًا على بعض الأسباب التي دعت بعض الكتاب المسلمين لأن يذهبوا مع تهمة إخوة يوسف لأبيهم بعدم عدالته، ودون وعي منهم أن يؤكدوها بكتاباتهم:
- التأثر ببعض الإسرائليات التي نالت كثيرًا من حقائق نص عليها القرآن الكريم.
- الإسقاط النفسي أو الخبراتي لمشاعر الكاتب على صورة العلاقة التي ربطت يعقوب بأبنائه.
- ورود هذه التهمة في بداية القصة دون أن تسبقها مقدمات عن تعامل يعقوب مع بنيه جميعًا، فإن من نوازع الإنسان ميله إلى تصديق ما يصل إليه من أخبار أولاً مع شحة أو انعدام المعلومات، ثم يصعب استبدالها بغيرها وإن كانت صحيحة.
وفي النهاية تنوه الباحثة إلى أن هذا العمل هو جهد بشري لا يخلو من العيب والنقص، فإن أصبنا فمن الله تعالى وتوفيقه، وإن أخطأنا فمن أنفسنا والشيطان، ونسأل الله تعالى أن يغفر لنا وهو أهل لذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
- دراسة (مستوى التفكير الناقد لدى طلبة كلية العلوم التربوية - الأنروا)، توفيق مرعي ومحمد نوفل، 2006.
- موقع المكتبة الإسلامية.
- موقع منظمة التفكير الناقد - Critical thinking Foundation
- Dr.Bensley Alan, Critical Thinking In Psychology, 1998
المصدر : مجلة المعرفة