لحكمة غابت عن الباحثين حنط قدماء المصريين جثث موتاهم ، وجعلوها مومياء منذ نحو سبعين قرناً، عثر علماء الآثار المصرية على أكثرها في نواويس ومدافن ، ووضعوا بعضها في المتاحف ودور العاديات لتشهد لتلك الحضارة القديمة بالرسوخ والارتقاء، ولم يكتف المصريون بتحنيط الملوك والملكات والعظماء والعظيمات والأولاد والنساء والعبيد والإماء بل تناولت أيديهم بالتحنيط ضروباً من الحيوانات تعد بألوف ألوف الألوف ، كشف أكثرها فاستعمل في تسميد الأرض وتزبيلها.
وقد أخذ المسيو ماسبرو مدير مصلحة الآثار المصرية طائفة من هذه الحيوانات والطيور المحنطة ودفعها إلى علماء من أهل الأخصاء فتعاورتها الأيدي بالبحث والعيون بالنظر والأفكار بالتأمل، وألف اليوم عالمان طبيعيان من مدينة ليون كتاباً في الحيوانات الخاصة بهذا القطر فمما قالاه فيه: لقد ظفر في مدافن الحيوانات بأنواع من القرد والكلب وابن آوى والهر والجرذ والضب والثور والظبي والغنم والعنز وغيره وبضروب من الطيور ونحو ثلاثين نوعاً من الجوارح وأكلة الحشرات والثمرات والتماسيح والحيات والأسماك وحيوانات لا فقار لها من ذوات الصدف.
ثبت للباحثين الموما إليهما أن حيوانات اليوم لم يختلف شكلها وخلقها عن الحيوانات التي حنطت قبل ستين قرناً إذ ما من مشتغل بالعلوم الطبيعية إلا ويأتيك بأمثلة كثيرة من الحيوانات التي لم تتغير خلقتها منذ مئات من القرون بل منذ ألوف. وهناك ضرب من ضروب الحيوانات يدعى بلسان الحيوان (براشيوبود) يرد عهده إلى أقدم عصور العالم.
ومعلوم أنه لا يتأتى حدوث القلب والإبدال في سحنات الإنسان والحيوان إلا بتغيير البيئة والمحيط ، ولما لم تتغير طبائع هذا القطر منذ ألوف من السنين، فلا يعجبن القارئ لما أكده العالمان الفرنسيان من بقاء الحيوان على وتيرة واحدة منذ قرون، كان الهر مقدساً عند قدماء المصريين ، ولذلك عثر على كثير منه محنطاً ، وقد تجد بين القططة ما ولد حديثاً وما هي أجنة في بطون أمهاتها. والهر المصري نوعان داجن ووحشي وهذا هو الذي كانوا يحنطونه ويقدسونه.
وبعد فقد قدس المصريون اللقلق لأنه يأكل الهوام التي كانت تغير على شواطئ النيل وكان من هذا اللقلق الأبيض والأسود وعثر على كثير من الأسود في المدافن القديمة محنطاً أما الأبيض فانقرض منذ مائة سنة وهو موجود في الحبشة بكثرة ولعل النيل كان يأتي به. وقدس المصريون الغنم وهو نوعان ادعى بعضهم أن أحدهما جاء من آسيا على نحو ما جرت العادة أن ينسب لهذه القارة كل نوع من إنسان وحيوان ونبات وتوصف بأنها مبعث جماع الحضارة ومهد الكائنات.
اتفقت الأديان وبعض الفلاسفة وجملة من الأساطير على أن الشرق مقيل أرقى الكائنات الحية. إلا أن العالمين الباحثين أثبتا بالبرهان أن هذه الحيوانات نشأت في قارة إفريقية على أن الملك سنفرون لما خرب النيل الأعلى وأتى من السودان بسبعة آلاف رجل وامرأة ومائتي ألف بقرة وغنمة جاء بالغنم المدعو لونجيب إلى هذه البلاد من السودان.
وفي هذا الكتاب بحث في تحنيط البقر - وبقرة بني إسرائيل صفراء فاقع لونها تسر الناظرين - وكان يظن أن بعض البقر المصري جاء من آسيا وبعبارة ثانية من سورية إلا أنه وجد منه هنا ما يماثله ودثر بعضه. ومن رأيهما أن البقر الذي حنطه قدماء المصريين كان من البقر الهندي ذي السنامين الموجود منه إلى الآن بكثرة في سهول مصر العليا. وقصارى القول فإن الباحث في تاريخ الإنسان والمؤرخ والطبيعي يرون في كتاب هذين العالمين مادة لطيفة في الكائنات بهذه البلاد وهذه المباحث طافحة بالفوائد في تاريخ الحضارة خاصة وتاريخ الكائنات عامة.
المصدر : مجلة المقتبس