لإقناع العقلي منهج الأنبياء وسائر الرسالات السماوية، وهذا المنهج قد تجلى بكل قوة وسطوع في دعوة نبي الله لوط عليه السلام حين قام ضد أسوأ ظاهرة اجتماعية في تاريخ البشرية حتى الآن، والقرآن الكريم قد حفظ لمن يؤمن به ويتدبر آياته لقطات من أساليب الإقناع ضمن دعوته؛ لكي تكون خير عدة لمن يريد أن يتصدى لمثل تلك الظواهر، ليس بآيات الترهيب فحسب بل بالآيات والإقناع معاً.
وقد حاولت أن أستلهم ما يتيسر من تلك اللقطات المذكورة في القرآن الكريم، والحاجة بل الضرورة إلى توسعة تلك المحاولات غدت شديدة، حيث إن الشذوذ الجنسي بدا وبكل قوة وتحرك، يحاول أن يفوز بالاعتراف القانوني والاستقطاب العالمي عبر حركات منظمة مدعومة، ووسائل إعلام مضللة ومنتديات الشبكة العنكبوتية.
الفاحشة مرفوضة لدى العقل:
نبي الله لوط عليه السلام حينما خاطب قومه بقوله: "وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ"[النمل : 55] فإنما ناشد عقولهم ببرهان عقلي يتمثل في أنه لا يمكن لذوي العقول أن يقرروا ارتكاب فاحشة، فإنها تعبير عن فعل استقبحه العقل وكرهته الطبيعة، كما أن الحرام تعبير عن القبح الشرعي، وكلمة تبصرون تدل على أدنى مراتب العقل، حيث لا يحتاج الأمر إلى إعمال فكر وإمعان نظر، وإنما الإبصار فحسب.
والحرام بوجه عام يحتاج إلى دليل من الوحي في كونه حراماً، ولكن الشيء المتصف بالفاحشة وهو وصف ذاتي لا ينفك بحال، حرام بدليل العقل والفطرة، وإن لم يبلغ الشخص الدليل السمعي من الشارع الحكيم ، وإن نبي الله لوط عليه السلام لم يترك لأحد يأتي بعده مجالاً أن يقول: إن الفعل المذكور كان محرماً في شريعته فحسب، حيث لم ينكر على قومه بأنهم يأتون محرماً، بل عبر إنكاره بكلمة الفاحشة، فقال: {أّتّأًتٍونّ پًفّاحٌشّةّ}. وهناك فرق بين الفاحشة وبين الحرام، فالشيء الواحد ربما يكون حراماً في شريعة دون شريعة، ولكن الفاحشة تبقى فاحشة في كل زمان، وتكون محرمة في كل شريعة بالضرورة وبالتأكيد، قال تعالى: " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ "[الأعراف : 33] وقال:" وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا" [الأعراف : 28] ..
فإذا قال أحد عن الفاحشة مثل قولهم هذا فلا مجال للتروي والتحري، بل يجب الرد الفوري عليه بقول فصل: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" [الأعراف : 28]..
ما سبقكم بها من أحد من العالمين:
وهذه طبيعة الفاحشة، فمكارم الأخلاق موجودة منذ أن وجد البشر، ولا أحد يستغرب من أحد إذا جاء بمكرمة، حيث كل المحاسن لها سوابق منتشرة قدر انتشار البشر، وتاريخها قديم مثل تاريخ البشر ، والتواطؤ على تحسينها ملحوظ ظاهر عياناً على مر الأجيال وفي كل الأرجاء ، والفاحشة أمرها مختلف تماماً، فإن من يريد إشاعتها يلزمه الالتجاء إلى دعوة التحرر من كل واقع وقديم، لكي يبرر أن ما يريد أن يتبناه ليس بفاحشة، فإن الواقع لا يبرر فعله ، وإن القديم لا يسند موقفه ، فالفاحشة دائماً تكون مدخولة في المجتمع البشري، ولا يوجد عمل اتسم بفاحشة وتلقاه المجتمع البشري بالاستحسان وبالقبول العام في الأزمان السابقة...
فالداعي إلى المكارم في مجتمع منحرف فاقد القيم إنما يدعو إلى استعادة شيء كان ولم يعد، والداعي إلى الفواحش يدعو إلى بدعة لم تكن بعد، الفاحشة دائماً في موقف ضعيف ، إن من يتبنى عملاً اشتهر بين البشر بكونه فاحشة ، ويدعي أنه ليس بفاحشة يكون دائماً في موضع تهمة بأن الشهوات قد غلبت فطرته وعطلت عقله، بينما من امتنع ومنع من عمل بحكم أنه فاحشة فإنه ليس هناك سبب يفسر ذلك إلا أنه خضع لحكم العقل والفطرة، فلا مصلحة شخصية ولا دافع هوى، وإذا كانت دواعي الشهوات توافرت ..
ومع ذلك أجمعت البشرية في زمن ما على كون عمل ما فاحشة فهذا لا يفسر إلا بموضوعية الحكم، ولاشك أن استدلال نبي الله لوط عليه السلام بأن ذلك العمل لم يسبقه أحد من العالمين، وبتعبير.. آخر قد حصل إجماع البشرية على كون ذلك العمل فاحشة يجب الامتناع عنها، استدلال في غاية القوة؛ لأن الإجماع ثابت ونزيه من كل تهمة، ولذلك نرى أن الشريعة ما أحلت قط أي عمل كان من عداد الفواحش في مجتمع ما، نعم لا يستبعد ألا يعد عمل ما في مجتمع فاحشة، مثل الطواف بالبيت عرياناً، فتأتي الشريعة وتحرمه بعد تقرير أنه فاحشة، ولكن لا يمكن أن يكون عمل في قائمة الفواحش فتأتي الشريعة وتخرجه من تلك القائمة...
الفاحشة فاحشة قبل التشريع وبعده :
الشريعة في أغلب الأحوال لا تبذل جهداً في إثبات فعل ما بأنه فاحشة، بل تصدر حكم التحريم على أساس أنه فاحشة، وأن كونه فاحشة أمر مسلم بين الناس لا يحتمل النقاش، وأن كونه فاحشة حكم تقتضيه الفطرة والعقل، وذلك الحكم مازال ولايزال شائعاً في المجتمع البشري، فإذا جاءت الشريعة فإن العرف البشري يكفيها مئونة إثبات أن فعلاً ما فاحشة فتتجه مباشرة إلى الحكم بتحريمه ، ولا أحد يعترض على ذلك، حيث إن الحكم الشرعي يكون مؤكداً لحكم مسلم عند البشر، وإنما مظنة الاعتراض إذا أحلت شريعة ما فاحشة ما، فيقال : إنها شريعة الشيطان وليست شريعة الرحمن" الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" [البقرة : 268] ..
قد تغيب الحقيقة:
ربما تكثر فاحشة في مجتمع ما، فتغيب الحقيقة عن العيان، ولكثرة الممارسة يهون أمر تلك الفاحشة عند بعض الناس، فتقوم الشريعة بالتذكير وتقويم الاعوجاج، كما حصل في نكاح ما نكحه الآباء من النساء، فجاء الحكم الشرعي يقرر حرمة الفعل ، ويقرر في الوقت نفسه أن الفعل فاحشة، ولم يجادل أحد في ذلك ، حيث إن الفطرة تذكرت ما غاب عنها ، حين أميط عنها لثام الممارسة ، وكان الشيخ محمد رشيد رضا موفقاً جداً حين قرر ذلك بقوله: «إِنَّ نِكَاحَ حَلَائِلِ الْآبَاءِ كَانَ، وَلَا يَزَالُ فِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَأَيَّدَتْهَا الشَّرِيعَةُ الَّتِي هَدَاهُمْ إِلَيْهَا أَمْرًا فَاحِشًا شَدِيدَ الْقُبْحِ عِنْدَ مَنْ يَعْقِلُ ، وَمَقْتًا أَيْ مَمْقُوتًا مَقْتًا شَدِيدًا عِنْدَ ذَوِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُ الْمَقْتِ، وَهُوَ الْبُغْضُ الشَّدِيدُ أَوْ بُغْضُ الِاحْتِقَارِ، وَالِاشْمِئْزَازِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نِكَاحَ الْمَقْتِ، وَسُمِّيَ الْوَلَدُ مِنْهُ مَقْتِيًّا، وَمَقِيتًا، أَيْ مَبْغُوضًا مُحْتَقَرًا ، وَسَاءَ سَبِيلًا أَيْ بِئْسَ طَرِيقًا طَرِيقُ ذَلِكَ النِّكَاحِ الَّذِي اعْتَادَتْهُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَبِئْسَ مَنْ يَسْلُكُهُ»(1).
والفواحش مراتب، ففاحشة يتصور غيابها عن الأذهان، وفاحشة غاية في الغلظة مثل فعل قوم لوط، فمثله لا يتصور أن يغيب، بل الممارس نفسه يعترف بأنه فاحشة ثم يصر عليها في عمى وتحت سيطرة الهوى، فإن قوم لوط لم يجادلوه في كون الفعل فاحشة، بل فوق ذلك اعترفوا بأن الممتنع متطهر، فقالوا: إنهم أناس يتطهرون.
وجود البشر منوط بقانون الزوجية:
إن كلمة «لكم» في قول لوط عليه السلام " وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ "[الشعراء : 166] تحمل في طيها معاني عظيمة، فإن مصالح البشر منوطة بقانون الزوجية، وأكبر المصالح مصلحة وجود البشر، فإن الذي يتجرأ لنقض هذا القانون يجب أن يفكر في وجوده هو، فإنه مدين لهذا النظام إذ لولاه لما وجد، ثم قائمة تكاد لا تنتهي من المصالح، كلما شرع الإنسان في إحصائها عجز وجاءه النداء : " فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" [الرحمن : 13].
ولوط عليه السلام لم يستخدم كلمة النساء بل الأزواج، وذلك يؤكد أن المرأة التي تكفل مصالح الرجل هي التي تربط بينها وبين الرجل علاقة الزوجية، وأما العلاقات الأخرى القائمة بين الرجل والمرأة على أساس الإباحية فلا يمكن أن تضمن مصالح أي منهما، وهذا هو الحق الذي تقره عقول البشر، فإن المصالح تقتضي مسئوليات وأعباء وحقوق وواجبات وعلاقة تدوم على مدى الحياة، وأما العلاقة القصيرة المدى فلا يمكن أن تتحقق بها أهداف الحياة، ولا يمكن أن توزع على أساسها المسؤوليات والواجبات " وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" [الذاريات : 49] ..
يقول العلامة عبد الحميد الفراهي في تفسير قوله تعالى: " وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" [الذاريات : 49] «فإن الخلق مع سعته واختلافه في الطبائع شاهد على رب واحد مدبر قاهر عليه، فإنه لو كان في كل خلق رب يدبره لم يكن بين طبائع أفراده تواطؤ على نتيجة ليست عائدة إليها، فإنك ترى أفرادها مسخرة لنفع أبعدها، زعم الملحدون أن كل موجود نشأ وتم وترقى لقوى مستترة فيه، فأبرز أعضاء لما يصلح بشؤونه ويقضي حاجاته، فهذا مع سخافته لا يكشف عن أمر خارج عن نفس الشيء، وهو مناسبة لما هو غاية في البعد عن علمه وحاجاته، فمناسبة زوج لزوج تستدعي خالقاً خارجاً عنهما عالماً بمصالحهما لكي يجعل أحد الزوجين موافقاً للآخر».
وقرّر الفراهي أنه يتضمن هذا الاستدلال «إثبات خالق قادر حكيم، جعل الخلق بعضه تماماً وزوجاً لآخر، وأصلح هذا لذلك حتى ينتجا منافع لعباده»(2). فكلمة «أزواجكم» في خطاب لوط عليه السلام يرمي إلى حجة عقلية قاطعة، تتمثل في أن العلاقة الزوجية هي ما كان بين الرجل والمرأة، وأما غير ذلك فلا يمكن أن تكون علاقة زوجية، لأن الزوج مكمل للزوج ما نقص منه، وموافق له، ومسخر لنفعه مع ما بينهما من بعد، ومصلح كلاً منهما للآخر حتى ينتجا منافع للعباد، وكل ذلك يتم في العلاقة الزوجية الدائمة بين الرجل والمرأة.
من الحجج التي أفحم نبي الله لوط عليه السلام قومه أن الطريق الذي سلكوه طريق الشهوات لا طريق العقل والرشد، وشتان بينهما، وقد بيّن ذلك العلامة الفراهي بإيجاز بليغ، فقال: «فالشهوات متشاجرة متناقضة ذات نزاع وخصام، وأما العقل والدين فهو اجتماع الناس على ما ينفعهم جميعاً من غير نزاع وضرر لأحد وهو النور والصراط المستقيم وسبل السلام».
طريق الشهوات يبدأ بالفوضى وينتهي إلى نزاع لا ينتهي:
وطريق العقل قائم على مبدأ مراعاة المصالح العامة والخاصة فلا ضرر ولا ضرار ، الشهوات لا تنظر إلى الأمور إلا بمنظور الاستمتاع، فليستمتع هو وليذهب العالم إلى الجحيم، وأما العقل فينظر إلى الأمور بموضوعية تقارن بين النفع والضرر ، وكيف يمكن أن يجتمع البشر على جلب المصالح ودفع المفاسد.
لفتة مهمة :
إن نبي الله لوط عليه السلام بقوله: " أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ "[النمل : 55] قد سد الأبواب دون أي علاقة بين الرجل ومثله تقوم على شهوة، فلم يترك مجالاً لقائل أن يقول: إن المنهي عنه هو الممارسة الجنسية، وأما دون ذلك فلا حرج، وهذا افتراء على الشريعة وتلاعب بالعقل، فالمنهي عنه أي علاقة بين الرجل ومثله تقوم على شهوة.
ومن روائع النبوة :
أن كل الأدلة والمبررات التي تعرض في حق تلك الفاحشة من قبل من يدّعون التنوير ويتبنون العقلانية تحوم حول الشهوة لاغير، والرسالة السماوية تحرّر الإنسان من أغلال الهوى والشهوات ليصبح سعيداً بفطرته النزيهة، وبجناحي عقله الحر في عالم فسيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
(1) تفسير المنار، (4/380)، العلامة محمد رشيد بن علي رضا (المتوفى: 1354هـ) الهيئة المصرية العامة للكتاب1990م.
(2) تفسير نظام القرآن، سورة الذاريات، العلامة عبدالحميد الفراهي المتوفى: عام 1930م.
المصدر : مجلة المجتمع الكويتية