بقلم / الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ .
هل يمكن أن يتعب الله، وأن يأخذه الإعياء بعد عمل ما ؟!!
القرآن الكريم يجب على هذا السؤال: “ أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى ؟ بلى إنه على كل شيء قدير “ (الأحقاف: 33) ومن البدائة أن يكون الخلاق الكبير فوق الإجهاد، وذهاب القوة: “ وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلى العظيم “ (البقرة: 255) .
ولذلك يقول مثبتاً هذه الحقيقة : “ ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب” (ق: 38) لكن العهد القديم يذهب غير المذهب، ويصف الله فيقول:“ وفرغ الله في اليوم السادس من عمله فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، وبارك الله السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقاً “ (سفر التكوين: الإصحاح الثاني) ودعك من الركاكة التي صيغت بها هذه العبارات، فقد يكون المترجم هابط الأسلوب في التعبير عن معنى ما، لكنك لا تستطيع أن تفهم معنى آخر من هذا الكلام إلا أن الله “ استراح “ من جميع أعماله في اليوم السابع، هذه الأعمال التي أداها بوصفه خالقاً .
واليهود يحرمون العمل يوم السبت، ويقدسونه، وجاء في التوراة أن موسى أمر بأن يقتل رجماً أحد الحطابين الذين أبوا إلا الكدح في هذا اليوم ! كيف جرى الحديث عن الله بهذه الكلمات ؟ لعلها غلطة ناقل ، لكن الحديث عن عجز الله تبعه حديث آخر عن جهله !!.
واسمع إلى وصف العهد القديم لآدم وزوجه بعدما أكلا من الشجرة: “ وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم ، وقال له: أين أنت ؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت . فقال: من أعلمك أنك عريان، هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها ؟ .. “ (سفر التكوين: الإصحاح الثالث) .
ما هذا ؟ كان الإله يتمشى في الجنة خالي البال مما حدث، ثم تكشفت له الأمور شيئاً فشيئاً، فعرف أن آدم خالف عهده، وأكل من الشجرة المحرمة !
تصوير ساذج يبدو فيه رب العالمين وكأنه فلاح وقع في حقله ما لم ينتظر !
ما أبعد الشقة بين هذا التصوير وبين وصف الله لنفسه في القرآن العظيم: “ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد “ (ق: 16) “ وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه “ (يونس: 61)
وقد أعقب هذا “ الجهل الإلهي “ قلق غريب، فإن الله يبدو وكأن ملكه مهدد بهذا التمرد الآدمي .
لقد أكل آدم من الشجرة ـ شجرة المعرفة ـ وارتفع بهذا العصيان إلى مصاف الآلهة فقد أدرك الخير والشر، وكان الرب عندما خلقه حريصاً على بقائه جاهلاً بهما .
ومن يدري ربما ازداد تمرده ، وأكل من شجرة الخلد وظفر بالخلود، إنه عندئذ سوف ينازع الله حقه، إذن فليطرد قبل استفحال أمره .
جاء في العهد القديم:“ وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر، والآن لعله يمد يده ، ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً، ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها، وطرد الإنسان وأقام شرقي جنة عدن الكروييم ، ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة “ (التكوين: الإصحاح الثالث) .
لكن سيرة آدم وأبنائه على ظهر الأرض لم تكن مرضية لله ، إن منهجه في الحياة ضل بالآثام والمتاعب، ولم يكن الله حين خلقه يعرف أنه سيكون شريراً إلى هذا الحد، لقد فوجئ بما وقع ، ومن أجل ذلك حزن الرب ، وتأسف في قلبه أن خلق آدم وأبناء آدم ..
قال العهد القديم:“ فحزن الرب أنه عمل الإنسان، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان الذي خلقته، .. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أنى عملتهم..“ (التكوين: الإصحاح السادس) ..
الحق أنني أدهش كل الدهشة للطفولة الغريرة التي تضح من هذا الحديث الخرافي عن الله جل جلاله ، إن الإله في هذه السياقات الصبيانية كائن قاصر .. متقلب .. ضعيف .
وما أشك في أن مؤلف هذه السطور كان سجين تصورات وثنية عن حقيقة الألوهية ، وما ينبغي لها ..
وأول ما نستبعده حين نقرأ هذه العبارات أن تكون وحياً، أو شبه وحى ..
ومع ذلك فإن اليهود والنصارى يقدسون ذلك الكلام، ويقول أحد القساوسة: “ الكتاب المقدس ـ يعنى العهدين معاً ـ هو صوت الجالس على العرش، كل سفر من أسفاره أو إصحاح من إصحاحاته أو آية من آياته هو حديث نطق به الكائن الأعلى ! “ .
والمرء لا يسعه إلا أن يستغرق في الضحك وهو يسمع هذا الكلام ! إنه إله أبله هذا الذي ينزل وحياً يصف فيه نفسه بالجهل والضعف والطيش والندم ، ونحن ـ المسلمين ـ نعتقد أن الكتاب النازل على موسى بريء من هذا اللغو، أما التوراة الحالية فهي تأليف بشرى سيطرت عليه أمور ثلاثة:
الأول: وصف الله بما لا ينبغي أن يوصف به ، وإسقاط صورة ذهنية معتلة على ذاته “ سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً “ .
الثاني: إبراز بني إسرائيل وكأنهم محور العالم، وأكسير الحياة، وغاية الوجود .. فهم الشعب المختار للسيادة والقيادة ، لا يجوز أن ينازعوا في ذلك .
الثالث: تحقير الأمم الأخرى، وإرخاص حقوقها، وإلحاق أشنع الأوصاف بها وبأنبيائها وقادتها .
وقد تتخلل هذه الأمور بقايا من الوحي الصادق، والتوجيهات المبرأة، بيد أن الأسفار الشائعة الآن تغلب عليها الصبغة التي لاحظناها .
وها نحن أولاء نسوق الأدلة على ما قلنا مكتفين بالشواهد من سفر التكوين وحده، لأن الانتقال إلى غيره يطيل حبل الحديث .
في هذا السفر أعلن الله ندمه على إغراق الأرض بالطوفان ، وقال لنوح: لن أرتكب هذه الفعلة مرة أخرى ! وسأضع علامة تذكرني بذلك حتى لا أعاود إهلاك الحياة والأحياء ، وهاك النص:“ وكلم الله نوحاً وبينه معه قائلاً: .. أقيم ميثاقى معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضاً بمياه الطوفان، ولا يكون أيضاً طوفان ليخرب الأرض، وقال الله: هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر، وضعت قوسي في السحاب ، فتتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض، فيكون متى أنشر سحاباً على الأرض ، وتظهر القوس في السحاب .. فمتى كان القوس في السحاب أبصرها ، لأذكر ميثاقاً أبدياً بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض .. “ (الإصحاح التاسع من سفر التكوين).
هذا هو التفسير لقوس قزح، وتحلل اللون الأبيض إلى عناصره المعروفة بألوان الطيف، كما شرح ذلك علماء الطبيعة .. قوس قزح هي قوس الله يبرزها في الأفق إشارة إلى العهد الذي أخذه على نفسه كي لا يغرق الأرض مرة أخرى، إنه يرى هذه القوس فيتذكر، حتى لا يتورط في طوفان آخر !!..
ورأيي أن الطوفان القديم كان عقوبة لقوم نوح وحدهم، وأنه ليس غرقاً استوعب سكان القارات الخمس ، فما ذنب هؤلاء المساكين ونوح رسالته محلية لا عالمية، اللهم إلا إذا كان المعمور يومئذ من هذا الكوكب ديار نوح وحسب .
وأياً ما كان الأمر، فإن وصف الله بالضيق لما ارتكب من إغراق الأرض، وتعهده ألا يفعل ذلك، أمر يليق بالخلق لا بالخالق .. بالناس لا برب الناس .
على أن هذه القصة أيسر من دعوة الله إلى ضيافة نبيه إبراهيم، لقد قدم الله في شكل رجل مع اثنين من ملائكته، وأقام لهم إبراهيم وليمة دسمة، فأكلوا منها جميعاً !! .
وكان إبراهيم حريصاً على إحراز هذا الشرف، شرف أن يأكل الله في بيته، فلما لبى الله الدعوة أسرع الرجل الكريم في إعداد مائدة مناسبة ! وهاك القصة كما رواها سفر التكوين:“ وظهر له الرب .. ونظر وإذا ثلاثة رجال .. وقال: يا سيد (يقصد الله) إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك .. فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: اعجني واصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر ، وأخذ عجلاً رخصاً وحيداً ، وأعطاه للغلام ، فأسرع ليعمله ثم أخذ زبداً ولبناً والعجل الذي عمله ، ووضعها قدامهم ، وإذا كان هو واقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا، وقالوا له: .. ويكون لسارة امرأتك ابن .. فضحكت سارة في باطنها قائلة: بعد فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ ! فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة .. ؟ هل يستحيل على الرب شيء ؟ “ (الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين) .
ونتجاوز هذه المائدة الدسمة التي أكل منها الرب وملائكته، لنقف بإزاء قصة أخرى من أغرب وأفجر ما اختلق الروائيون !!القصة الجديدة تحكي مصارعة بين “ الله “ وعبده “ يعقوب “ !.. وهذه المصارعة دامت ليلاً طويلاً، وكاد يعقوب يفوز فيها لولا أن الطرف الآخر في
المصارعة ـ وهو الله !! ـ لجأ إلى حيلة غير رياضية هزم بعدها يعقوب ! ومع ذلك فإن يعقوب تشبث بالله ، وأبى أن يطلقه حتى نال منه لقب “ إسرائيل “ !!.
ومنحه الله هذا “ اللقب الفخري “ ثم تركه ليصعد إلى العرش ، ويدير أمر السماء والأرض، بعد تلك المصارعة الرهيبة !!.
أي سخف هذا، وأي هزل ؟؟
أي عقل مريض أوحى بهذا القصص السفيه ؟؟
ولكن اليهود يريدون أن يرفعوا مكانة جدهم الأعلى، ولا عليهم أن يختلقوا ما يستغربه الخيال، وهاك القصة بأحرفها من سفر التكوين:“ فبقي يعقوب وحده ، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه ، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقني ! .. فقال: لا أطلقك إن لم تباركنى ! فقال له: ما اسمك ؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل .. وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك ، فقال: لماذا تسأل عن اسمي ؟ وباركه هناك .
فدعا يعقوب اسم المكان “ فينيئل “ قائلاً: لأني نظرت الله وجهاً لوجه ونجيت نفسى ..
لذلك لا يأكل بنو إسرائيل “ عرق النسا “ الذي على حق الفخذ إلى هذا اليوم لأنه (الله) ضرب حق فخذ يعقوب على عرق النساء !! “ (سفر التكوين الإصحاح: 32) .
.. نعم تخليداً لذكرى هذه المصارعة نشأ حكم فقهي بتحريم العمل يوم الراحة الإلهية .
وكم يفخر اليهود إذ كان أبوهم بهذه المثابة من القوة التي عاجزت الإله، وكادت توقع به الهزيمة !!. ..
المصدر : كتاب قذائف الحق