بقلم: درويش مصطفى الفار
مقدمة:
شبة جزيرة سيناء هي الركن الشمالي الشرقي من مصر، وهي ترتبط بمصر منذ فجر التاريخ الإنساني برباط حاولت أحداث ومؤامرات لا تحصى أن تفصمه دون جدوى..
ولقد أعطى هذا الارتباط في رأي كثير من العلماء والباحثين للإنسانية حروف الكتابة الأبجدية الأولى التي أخذت عنها كل الأبجديات العالمية..
وأرجح الأقوال أن الذين اختروا أبجدية سيناء الأولى هم الجيولوجيون , ومهندسو التعدين الذين كانوا خليطاً من المصريين وأهل الشام، يعملون في مناجم النحاس والفيروز، واخترعوها لتسهل عليهم كتابة التقارير العلمية الخاصة بمسيرة أعمال التعدين.
تقديم:
لعل معرفة الكتابة هي النعمة الكبرى التي ميّز بها الله سبحانه وتعالى بني آدم عن بقية المخلوقات, ومن هنا نجد أول ما نزل من القرآن الكريم هو: "اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلقَ الإنسانَ من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الإنسانَ ما لم يعلمْ" [العلق: 1-5].
ثم نجد أن القرآن الكريم يقول في سورة الكهف [109]: "قلْ لو كانَ البحرُ مداداً لكلماتِ ربّي لنفدَ البحر قبل أن تنفدَ كلماتُ ربي ولو جئنا بمثله مدداً"
ثم في سورة لقمان [27]: "ولوْ أنّ ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحرُ يمدّه من بعدِه سبعةُ أبحر ما نفدت كلماتُ الله.." مما يؤكد أهمية هذه النعمة الكبرى، نعمة الكتابة... ، تلك الوسيلة التي ينفرد بها بنو آدم في نقل الفكر عبر الزمان والمكان.."
وقصة ذلك طويلة في فصول الحضارة الإنسانية.. فقد كان المصريون القدماء أهل علم ومعرفة بأصول صناعة التعدين , وعلوم استخراج الخامات من مئات القرون.. وكانوا لا يفتأون يسبرون أغوار صحاريهم المحيطة بالنهر الخالد ـ النيل ـ بحثاً عن مكان الذهب والنحاس والفيروز والجُمشَت واللازورد والمغر، وظلوا يستخرجون الفيروز والنحاس من سيناء ووادي عربة قروناً طويلة، حتى بلغوا الشأو عندما نقرأ في بعض أوراق البردي على لسان الفرعون رمسيس الثالث [1198-1167 ق.م" ما معناه:
»لقد أرسلتُ الضباط والرؤساء إلى بلاد أمي العزيزة هاتور [حت-حور] سيدة الفيروز، وأحضروا لي أعاجيب من ذلك الحجر الأزرق في حقائب عديدة، لن يحظى بمثلها ملك بعدي!«
وبلغ أمر التعدين في سيناء أهميته القصوى في الدولة المصرية القديمة مما حدا بها إلى إنشاء معبد وثني خاص بالتعدين في منطقة »سرابيط الخادم« تقام فيه الطقوس لوثنيْن: أولهما "حتحور "إله التعدين، وثانيهما " صو-بدو " إله الصحراء الذي كان يقدسه بدو سيناء الوثنيون.
وكان الفرعون الملك لا يتوج ولا يمسك بصولجان الملْك في مصر، على سعتها، إلا بعد أن يحجّ إلا ذلك المعبد، ويقدم الهدايا , وينحر القرابين تحت أقدام حتحور وصو بدو.. وما كان أحدهم قط ليخرج إلى الحرب، مطمئناً إلى نصر عسكري، إلا بعد أن يرسل هداياه إلى معبد »سرابيط الخادم« إلى الشرق من قرية »أبي زنيمة« الواقعة قرب الساحل الشرقي لخليج السويس.. فإذا عاد من الحرب ذهب بنفسه ليشكر كلاً من صوبدو وحتحور على نعمة النصر!
ودار الزمان دوراته بخيره وشره، وعسره ويسره، وأصبحت ذرا سيناء الجنوبية ووديانها ملجاً ومهرباً من كل جبار عنيد، خاصة في عهد الرومان الذين ساموا المصريين سوء العذاب قبل أن ينقذ الله مصر وأهلها بالفتح الإسلامي.
وكانت الإمبراطورة القديسة هيلانة [سانت هيلين 248-328م] قد انفصلت بالطلاق لأسباب سياسية عن الإمبراطور البيزنطي الأول قسطنطينوس، الذي تزوج بدلاً منها تيودورا الفاتنة ربيبة الإمبراطور الروماني مكسيميان.
وعندما أصبح قسطنطين الأكبر ابن هيلانة إمبراطوراً سنة 306م تلقبت هيلانة بلقب الإمبراطورة الأم واعتنقت النصرانية.
ثم حدث لهيلانة ما لم يكن في الحسبان إذ ادّعت »فاوستا« زوجة ابنها الثاني أن »كرسبوس قيصر« حفيد هيلانة قد راودها عن نفسها، فلم يكن هناك مفر من إعدامه شنقاً على رؤوس الأشهاد سنة 326م، ولم تطق هيلانة صبراً على ما جرى لحفيدها، فدبرت لتيودورا مكيدة وقادتها إلى حبل المشنقة، ظناً منها أن ذلك سوف يشفي غليلها..
ولكن هيلانة الإمبراطورية الأم أصيب بعد تلك الأحداث بحزن عميق، أدى بها إلى التصوف و»الدروشة« فأصبحت من المجاذيب، ونصحها الناصحون بالتوجه إلى الأرض المقدسةـ فلسطين ـ للسلوى والنسيان، بالبحث في آثار التوراة والإنجيل.. ولقيها هنالك من الأحبار والرهبان من قرأ عليها خبراً من كتابات المؤرخ »ديودور الصقلي« [سنة 10 ق.م] نقله عن »أرتميدوروس« [سنة 110 ق.م] وعن »أغاثارشيدس« [سنة 160 ق.م] يفيد بأن هنالك نقوشاً وكتابات على الصخور قرب »الطور« غير معروفة الأصل.
فظنت الإمبراطورة تحت تأثير الانجذاب الذي يغمرها أن تلك النقوش المجهولة لا بد وأن تكون نقوش أصحاب موسى ـ عليه السلام ـ أثناء التيه، فشدت الرحال إلى ربوع وادي »المكَتَّب« على وزن »المقطّم«.. ومنذ تلك الرحلة التي قامت بها الإمبراطورة المجذوبة شاعت فكرة نسبة تلك النقوش السينائية إلى تيه أصحاب موسى بن عمران عليه السلام.. وهذا ما ثبت خطؤه فيما بعد من القرون..
وبعد ذلك قامت الحاجة »أثيريا« الإسبانية سنة 400م برحلة لزيارة تلك المظانّ تأسياً بالإمبراطورة الأم..
وبلغ الطين بلّته في هذا الاعتقاد الخاطئ بعد أن ألّف »كوزماس« كتابه ( الطبوغرافيا الإنجيلية) فيما بين سنة 525م وسنة 547م، وكان قد قام برحلة بصحبة بعض اليهود إلى وادي المكتّب وما حوله سنة 518م.. وكان كوزماس ذلك نصرانياً نسطورياً من أبناء مدينة الإسكندرية في مصر، وكانت أصل حرفته التجارة، وأصبح ملاحاً خبيراً بالبحر وأصول علم الجغرافيا واللاهوت ، ووصل إلى الهند،وأقام هنالك علاقات تجارية وتنصيرية، حتى اشتهِر باسم التارج الهندي.. ثم تهافت الباحثون على مواقع تلك النقوش زرافات ووحداناً..
فكتب عنها »كيرشر« سنة 1636م كلاماً كثيراً لا سند له من علم، ونقل »نينبرج« سنة 1721م رسومها، ووصفها »بوكوك« سنة 1738م، ورصد القسيس الإيرلندي البيشوب »كلايتون« سنة 1753م جائزةً سخية لمن يفك رموزها, وتناولها كل من »نيبوهر« و»مونتاجو« كلٌّ على حدة سنة 1766م، وذكرها الجيولوجي الفرنسي »روزيير« سنة 1799م، وأشار إليها »كونل« سنة 1800م إشارة عابرة لا تشفي غليلاً في مقالته »ثمانية وعشرون يوماً في سيناء« التي وردت في كتاب الحملة الفرنسية الشهير »وصف مصر«.
وتلا ذلك كلٌّ من »زيتسن« سنة 1807م، و»يوركهاردث« سنة 1812م، و»روبل« سنة 1817م، و»هينكر« سنة 1820م، وهي السنة نفسها التي نشر فيها »جراي« مقالته عن نقوش سيناء في مجلة الجمعية الملكية البريطانية.
وتكلم عن نقوش سيناء كلاماً غير مــفصل أيضاً، »لابورد« سنة 1828م،واللورد »برودهو« والميجر »فليكس« سنة 1836م.
وفي سنة 1840م أفتى »دي بير« في لايتبسيج بألمانيا بعد أن ميّز مائة حرف ، كما زعم أن تلك النقوش لهجة عربية، أو أنها ذكريات الحجاج النصارى إلى دير »سانت كاترين«؛ وبعد أن تناولها »لبسيوس« سنة 1845م بالذكر قال »توخ« سنة 1849م برأي مواطنه »دي بير« ولكنه أشار أن أن زمن نقشها أقدم مما اعتقده »دي بير«.
ثم تكلم في أمر نقوش سيناء كل من »لافال« سنة 1850م، و»فوستر« 1851م و»فريزر« سنة 1855م و»بالمر« (الشيخ عبد الله) سنة 1866م. وعندما درسها »دي روجيه« سنة 1874م قال: إن مصر من خلال نقوش سيناء هي مصدر الحروف الإغريقية، فكان ذلك طرف خيط الحقيقة..
ونقل »بنديت فيجاريين« سنة 1898 م حوالي ألفي حرف من تلك النقوش، ونشر رأيه عنها في باريس سنة 1902م، وأفتى أنها من عمل الأنباط في القرنين الثاني والثالث (بعد الميلاد).. فجانبه التوفيق.
وبدأ القول العلمي الفصل في أمر نقوش سيناء على يد الباحث المحقق السير »وليام فلندرز بيتري« سنة 1906م في كتابه »أبحاث في سيناء« حيث أثبت أن هذه النقوش لا علاقة لها بالتيه ولا بخرافات بني إسرائيل، وأنها ترجع إلى حوالي سنة 1500ق.م.
ومنذ أن تكلم العلامة بيتري عن النقوش السينائية دخل أمرها في حقبة جديدة بين أيدي العلماء.. فقال »ألان جاردنر« سنة 1916م بأن حروف سيناء هي أصل الحروف الكنعانية (الفينقية) وذلك في مقال شهير نشره في صحيفة »الأركيولوجيا المصرية« [العدد الثالث].. وجانب التوفيق الباحث »هانزباور« سنة 1918م حين أراد أن يرجع تلك الحروف السينائية إلى أصل سامي بحت.. ولا ننسى أن جاردنر كان أول من وفق في قراءة ونطق كلمات الحروف السينائية حين لاحظ بدقة اسم حت-حور التي كان لها اسم آخر هو »بعلات« أو »بعلت« فكان من هذا اللفظ مفتاح الأمر، ليبني اعتقاده على أن حروف سيناء كانت المرحلة التي عبرت عليها الهيروغليفية لتكون أصل الأبجديات السامية العالمية كلها.
ولقد تحاور العلماء كثيراً، ولا يزالون، في كنه الناس الذين كانوا يعملون في المناجم المصرية في سيناء، والذين تنسب إليهم نقوش الحروف السينائية، فمنهم من يجنح إلى أنهم وافدون من بلاد ساعير، كما زعم »سبرنجلنج« سنة 1931م، كان المصريون يستخدمونهم في التعدين.. ويبدو، حتى الآن، أن »و. ف. أولبرايت« كان سنة 1969م أكثر العلماء إفاضة في أمر نقوش سيناء..
ولقد ناقش الدكتور »رمزي البعلبكي« سنة 1981م في كتابه الجامع الذي عنوانه »الكتابة العربية والسامية« جوانب هامة من هذا الموضوع بطريقة يشكر عليها حقاً..
والأمل معقود أن يتصدى بعض الباحثين لإصدار دراسة شاملة لا تترك شاردة ولا واردة عن أبجدية سيناء باللغة العربية، بحيث تحتوي تلك الدراسة على صور تلك النقوش في وادي المكتّب، ومعبد سرابيط الخادم، وما بينهما وما حولها.. وعلى خرائط تفصيلية تبين تلك المواقع.. ولا جدال في أن مثل هذه الدراسة سوف تكون عملاً علمياً نفخر به ونعتز، لا سيما وأن كل الدراسات التي تعمدنا الإفاضة في ذكرها لا تنسَب إلينا..
فهل آن الأوان لكي تنسب إلى باحثين عرب أكمل دراسة عن تلك النقوش التي لا تزال تحير العلماء والباحثين؟..
المصدر : مجلة الأمة القطرية، العدد 46، شوال 1404 هـ نقلا عن موقع الفسطاط .