كان حجر بن عمرو بن معاوية الكندى –كان يعرف بآكل المرار ، وهو جد امرئ القيس - قد أغار في كندة وربيعة على البحرين ، فبلغ زياد بن الهبولة – كان ملكاً على الشام - خبرهم ، فسار إلى كندة وربيعة وأموالهم ، وهم خلوف ، ورجالهم في غزاتهم المذكورة ، فأخذ الحريم والأموال ، وسبى منهم هند بنت ظالم زوج حجر ، وسمع حجر بغارة زياد فطلبه ، وصحبه من أشراف ربيعة : عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان ، وعمرو بن أبي ربيعه بن ذهل بن شيبان وغيرهما ، فأدركوا عمراً بالبردان ، وقد أمن الطلب .
فنزل حجر في سفح جبل ، ونزلت بكر وتغلب وكندة مع حجر دون الجبل. فتعجل عوف بن ملحم وعمرو بن أبي ربيعة وقالا لحجر : إنا متعجلان إلى زياد لعلنا نأخذ منه بعض ما أصاب منا ، فسارا إليه ، وكان بينه وبين عوف إخاء فدخل عليه وقال له : يا خير الفتيان : اردد عليّ امرأتي أمامة ، فردها عليه ، وهي حامل.
ثم إن عمرو بن أبي ربيعة قال لزياد : يا خير الفتيان ، اردد عليّ ما أخذت من إبلي فردها عليه ، وفيها فحلها ، فنازعه الفحل إلى الإبل فصرعه عمرو ، فقال له زياد : ياعمرو ، لو صرعتم يا بني شيبان الرجال كما تصرعون الإبل لكنتم أنتم أنتم. فقال له عمرو : لقد أعطيت قليلاً ، وسميت جليلاً ، وجررت على نفسك ويلاً طويلاً ، ولتجدن منه ، ولا والله لا تبرح حتى أروى سناني من دمك ، ثم ركض فرسه حتى صار إلى حجره فأخبره الخبر.
فأقبل حجر في أصحابه حتى إذا كان بمكان يقال له الحفير ، أرسل سدوس بن شيبان وصليع بن عبد غنم يتجسسان له الخبر ، ويعلمان علم العسكر ، فخرجا حتى هجما على عسكره ليلاً ، وقد قسم الغنيمة ، وأطعم الناس تمراً وسمناً ، فلما أكل نادى : من جاء بحزمة حطب فله فدرة تمر – أي قدر تمر- ، فجاء سدوس وصليع بحطب ، فناولها تمراً ، وجلسا قريباً من قبته ، ثم انصرف صليع إلى حجر فأخبره بعسكر زياد ، وأراه التمر.
وأما سدوس فقال : لا أبرح حتى آتيه بأمر جليّ ، وجلس مع القوم يتسمع ما يقولون. وهند امرأة حجر خلف زياد ، فقالت لزياد : إن هذا التمر أهدى إلى حجر من هجر ، والسمن من دومة الجندل.
ثم تفرق أصحاب زياد عنه، فضرب سدوس يده إلى جليس له ، وقال له : من أنت ؟ مخافة أن يستنكره الرجل ، فقال : أنا فلان بن فلان ، ودنا سدوس من قبة زياد بحيث يسمع كلامه ، ودنا زياد من هند امرأة حجر فقال لها : ما ظنك الآن بحجر ؟ فقالت : ما هو ظن ، ولكنه يقين ، وإنه والله لن يدع طلبك حتى يطالع القصور الحمر – تعنى قصور الشام – وكأني به في فوارس من بنى شيبان يذمرهم ويذمرونه – ذمره أي حضه ولامه وحثه- ، وهو شديد الكلب تزبد شفتاه ، وكأنه بعير آكل مرارا ،- المرار : شجر مر إذا أكلته الإبل قلصت شفتاها - فالنجاء النجاء ، فإن وراءك طالباً حثيثاً ، وجمعاً كثيفاً ، وكيداً متيناً ، ورأياً صليباً، فرفع يده فلطمها ، ثم قال لها : ما قلت هذا إلا من عجبك به ، وحبك له. فقالت : والله ما أبغضت ذا نسمة قط بغضي له ولا رأيت رجلاً أحزم منه نائماً ومستيقظاً ، إن كان لتنام عيناه فبعض أعضائه مستيقظ ، وكان إذا أراد النوم أمرني أن أجعل عنده عسًا – العس : إناء كبير- من لبن ، فبينما هو ذات ليلة نائم وأنا قريب منه أنظر إليه إذ أقبل أسود سالخ – أسود سالخ : الشديد السواد من الحيات ، ويقال له سالخ لأنه يسلخ جلده كل عام - إلى رأسه فنحى رأسه ، فمال إلى يده فقبضها ، فمال إلى رجله فقبضها ، فمال إلى العس فشربه ثم مجه ، فقلت : يستيقظ فيضر به فيموت فأستريح منه ، فانتبه من نومه ، فقال : عليّ بالإناء ، فأتيته له ، فشمه ثم ألقاه فهريق ، فقال : أين ذهب الأسود ؟ فقلت : ما رأيته . فقال : كذبت والله ! وذلك كله بأذن سدوس ، فلما نامت الأحراس خرج يسري ليلته حتى صبح حجراً ، فقال :
أتاك المرجفون برجم غيب ..... على دهش وجئتك باليقين
فمن يك قد أتاك بأمر لبس ....قـد آتي بأمـر مستبيـن
ثم قص عليه ما سمع به ، فأسف ونادى بالرحيل ، فساروا حتى انتهوا إلى عسكر ابن الهبولة ، فاقتتلوا قتالاً شديداُ ، فانهزم أصحاب ابن الهبولة ، وقتلوا قتلاً ذريعاً ، واستنفدت بكر وكندة ما كان بأيديهم من الغنائم، وعرف سدوس زياداً فحمل عليه فاعتنقه وصرعه ، وأخذه أسيراً ، فلما رآه عمرو بن أبي ربيعة حسده فطعن زياداً فقتله ، فغضب سدوس وقال : قتلت أسيري ، وديته دية ملك ، فتحاكما إلى حجر فحكم على عمرو وقومه لسدوس بدية مِلك ، وأعانهم من ماله ، وأخذ حجر زوجته هند فربطها في فرسين ، ثم ركضهما حتى قطعاها ، وقال فيها :
إن من غره النساء بشيء........ بعد هند لجاهل مغـرور
حلوة العين والحديث ومـر....كل شيء أجن منها الضمير
كل أنثى – وإن بدا لك منها..آية الحب – حبها خيتعور
والخيتعور : كل شيء يتلون ولا يدوم على حال . وسمي هذا اليوم يوم البرادان نسبة إلى مواضع كثيرة ذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان ، ولم يعين الموضع الذي وقع فيه ذلك اليوم .
أيام العرب في الجاهلية ، لمحمد أحمد جاد المولى وآخرون ، ص 42