شعيرة الجهاد ، تلكم الشعيرة التي ساء فهمها لدى الكثيرين من الناس ، واتخذها أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم وسيلة للطعن فيه ، واتهامه بأن دينه يدعو إلى العنف والقسوة وإرهاب الآمنين ـ وكان آخر ذلك ما جاء في حديث الجاهل بابا الفاتيكان ـ وما ذلك إلا لتشويه صورته عند من لا يعرفون شيئا عن تعاليمه السامية ، مستغلين في ذلك ما يقع من حين لآخر في بعض بلدان العالم من أحداث دموية مروعة، وتنسب إلى المسلمين ، رغم أنه لا يعلم على سبيل اليقين من وراءها ، ولا من يقومون بها.
ولكي يتضح للناس جميعا ـ مسلمين وغير مسلمين ـ أنه لا يوجد أدنى شبه بين تعاليم رسول الله وبين ما ينسب إليه من أن دينه هو سبب العنف الذي يسود العالم الآن فإني أوقف القارئ على حقيقة الجهاد في حياته صلى الله عليه و سلم ؛ ليعلم لماذا جاهد صلى الله عليه وسلم ، وكيف كان جهاده ، وذلك من خلال الحقائق التالية :
ـ الحقيقة الأولى هي أن الجهاد في الإسلام ليس معناه رفع السلاح في وجه كل مخالف له ، أو إجباره على اعتناق أفكاره ، وإنما هو باختصار كما قال أكثر علماؤنا القدامى : أن يبذل المسلم ما في وسعه من أجل دفع المعتدين ، ونصرة الحق ، ورفع الظلم عن المظلومين (1) .
كما قال سبحانه وتعالى "...وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا" (2)
وهذا لا يعني أيضا أن المسلم مأمور بأن يسعى لهلاك نفسه ، ولا يبالي بأمنها ؟ أو أنه متعطش لسفك الدماء كما وهم البعض ؟ كلا إنه يحرص على الحياة الآمنة السعيدة له ولغيره ، وربما أكثر من غيره ؛ لأن الإسلام يربيه على أن يكون محبا للناس وديعا مسالما ، يهدي السلام إلى كل من يلقاه ؛ مقدرا للحياة التي هي هبة من الله ولله .
كما أن الله الذي خلق الإنسان بيده وسواه، ونفخ فيه من روحه ، وفضله وكرمه على كثير ممن خلق ، لا يريد ـ بفرض الجهاد ـ سفك دمه أو إهدار حياته مسلما أو غير مسلم ، بل هو أرحم به من نفسه ، وقد ذكر في القرآن الكريم أنه "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا" (3) أي في الذنب وأكد رسول الله أن قتل النفس من كبائر الذنوب ، ومن أعظم الخطايا بعد الشرك بالله .
لكن الله يريد أن يعبد ، ويذكر اسمه في الأرض ، دون أن يكره أحد على ذلك ، يريد أن يعيش الناس أحرارا في حياتهم ، وأحرارا في معتقداتهم وأفكارهم ،وأحرارا في تصرفاتهم ، لا يستعبدهم أو يستغويهم أحد ، يريد أن يصل الإسلام إلى الناس جميعا ، ويعرض عليهم واضحا ، وأن يعرف الناس جميعا أنهم خلقوا لذلك ، ثم هم بعد ذلك أحرار في قبوله أو رفضه كما قال سبحانه وتعالى "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " (4) .
فإذا ما جاء أناس وتصدوا له وحاربوه ، ومنعوا الناس من اعتناقه ، وأصروا على ذلك ، ولم تُجد معهم كل السبل دون القتال ، لم يكن أمام المسلمين غير مواجهتهم ودفعهم ؛ حتى يكفوا عن محاربة الإسلام ، وإلا خلت الأرض من العابدين لله ، وانتشر فيها الفساد ، وفي ذلك إيذان بزوال البشرية جميعها من على وجه الأرض ، كما قال تعالى : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز"(5) وقوله تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين"(6).
ـ الحقيقة الثانية هي أن الإسلام ليس بدعا في اللجوء إلى السلاح ضد من يعادونه ، ويمنعون الناس من قبوله ، فعلى مدى تاريخ البشرية الطويل لم ينجح الحق في تثبيت أركانه ، ونشر سلامه في الأرض إلا بعد مدافعة البغاة ، والمسيح ـ عليه السلام ـ الذي سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى نشر السلام في الأرض لم يقدر له أن يحقق ذلك في عصره ؛ لأن البغاة وقفوا في طريقه ، ولم يجد من القوة ما يدفعهم به.
وفي العصر الحديث لم تخرج أوربا إلى الحرية التي تعيشها الآن إلا بعد أن دفعت ثمنها ، واستخدمت القوة في التخلص من سيطرة الأباطرة ، مع إن الفارق كبير جدا، فنحن في الإسلام لم نسمع عن طفل واحد قتل أو أصيب خلال مواجهات نبي الإسلام كلها مع أعدائه ، ولم يقتل من النساء في كل معاركه سوى ثلاث أو أربع قتلن لظروف معينة ، ومن قتل من الرجال الأبرياء خطأ دفع صلى الله عليه وسلم ديته التي تقدر بمائة من الإبل أو ثمنها .
ـ الحقيقة الثالثة أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة قرابة ثلاث عشرة سنة ـ أي أكثر من نصف فترة النبوة ـ يدعو إلى الله ، وتحمل هو ومن معه كثيرا من الإيذاء والاضطهاد ، واضطرهم المشركون إلى هجر بلادهم وترك أموالهم ، ولم يقابل ذلك إلا بالصبر ، وما رد على أحد اعتداءه ، حتى تعجب بعض أصحابه من ذلك فقالوا: يا نبي الله ! كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة ؟! فقال: "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " (7) مما يؤكد أن المسالمة هي الأصل في حياة المسلم ، وفي دعوته إلى الله تعالى .
فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يسلم من هجمات المعتدين ، ووجد زعماء المشركين في مكة يصرون على صده ومنعه من تبليغ دعوة ربه ، ويخيفون الناس من اتباعه ، وحرضوا عليه المشركين في المدينة .
فقد كتبوا إلى ابن أُبيّ ( زعيم المنافقين بالمدينة ) ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوْس والخزرج، إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم باللّه لتقاتلنَّه أو لتخرجنَّه أو لنسيرنَّ إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم، وعزم عبد اللّه بن أُبَيٍّ ومن كان معه من عبدة الأوثان على فعل ما أمروا به ، واجتمعوا لقتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لولا أنه لَقِيَهم بحلمه وقال لهم: "لقد بلغ وعيد قريشٍ منكم المبالغ، ما كانت تكيدهم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم !" (8).
فلم يكن أمامه إذن من حل غير التصدي لهم ولغيرهم ، وكفهم عن ذلك ، ودفع خطرهم عنه ، وذلك بعد أن أذن الله له ، فقال تعالى " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بأَنَّهُمْ ظلِمُوا وَإنَّ اللّه عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّه" (9) فكانت علة الإذن بالقتال ما تعرضوا لهم من قتل وظلم ثم إجبار على الفرار من ديارهم .
ـ الحقيقة الرابعة أن رسول الله لم يكن يبادئ أحدا بقتال في كل غزواته ـ رغم يقظته التامة لكل ما يدبره أعداؤه ـ بداية من غزوة " بدر " التي أجبره أبو جهل على خوض غمارها عندما قال متحديا : والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم بها ثلاثًا، فننحر الجَزُور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف لنا القِيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يـزالون يهابوننا أبدًا" (10) وظل حتى قبيل المعركة بلحظات يود انصرافهم عنه ؛ حقنا للدماء ، وقال لما رأي عتبة يدعوهم إلى ذلك : "إن يطيعوه فيما دعاهم إليه يرشدوا" (11) .
وانتهاء بغزوة " تبوك " التي خرج إليها لما علم أن هرقل إمبراطور الروم قد جيّش الجيوش من الروم والعرب الموالين له على حدود الشام ،وجعلها تحت قيادة عظيم من عظماء الروم ، وهو زاحف للقضاء على المسلمين بالمدينة ، قبل أن يمتد الإسلام إلى ربوع البلاد التي يحتلها ، بعدما جاءته الأنباء بأن العرب أقبلوا على الدخول في دين الله أفواجا .
ـ الحقيقة الخامسة أن رسول الله لم يقاتل أعداءه قتال الحاقد أو الكاره أو المنتقم ، وكان شعاره " من كف وألقى سلاحه فهو آمن " وقد أمر يوم "بدر" بعدم قتل مجموعة من الناس علم أنهم خرجوا مع أبي جهل مكرهين ، ولم يأمر باتباع الفارين منهم بعد نهاية المعركة ، وقام بدفن جثث القتلى منهم بعد أن تركها أهلهم وعادوا إلى مكة ؛ تكريما لإنسانيتهم .
وأحسن إلى الأسرى بطريقة لم تعهد في تاريخ الإنسانية ، وقد صور أحد الأسرى ويسمى " زرارة بن عمير" بعض هذا الإحسان بقوله " كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر ، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالطعام ، وأكلوا هم التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا ، وما تقع في يد رجل منهم لقمة إلا نفحني بها ، فأستحي فاردها ، فيردها علي ما يمسها" (12)
وافتدى كل واحد على قدر حالته المالية ، ومن عجز عن دفع الفدية منهم أطلق سراحه دون مقابل ، ومن هؤلاء رجل يسمى "عمرو بن عبد الله الجمحي" كان محتاجاً ذا بنات، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: قد عرفت أني لا مال لي، وأني ذو حاجة وعيال فامنن علي، فمن عليه وشرط عليه أن لا يظاهر عليه أحداً (13)
ولم يعاقب أحدا على ما سلف منه من اعتداءت على المسلمين بعد تغلبه عليه ، باستثناء من نفذ فيهم حكم الله ، حتى من دبروا لاغتياله ، فقد عفا عن عمير بن وهب الذي حاول اغتياله بعد غزوة " بدر" ثم وقع في قبضة المسلمين ، واعترف أمامه بخطته (14) .
وقصة عفوه عن "غورث بن الحارث" لدليل صادق على سعة صدره وحلمه الذي لم يتخلق به أحد من البشر على الإطلاق ، فقد لمحه هذا الرجل في إحدى غزواته ، وهو نائم وحده تحت شجرة من الشجر ، وسيفه معلق في غصن من أغصانها ، فنزل خفية وجاء إليه حتى قام على رأسه ، وقال يا محمد: من يمنعك مني؟ .
فقال صلى الله عليه وسلم: الله يمنعني منك، فأخذت الرجل الرعشة ، ووقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، وقام إليه قائلا: وأنت من يمنعك مني ؟ فقال له لا أحد ، ولكن كن خير آخذ. قال: وتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى النبي صلى الله عليه وسلم سبيله، فذهب إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس(15).
وعفا صلى الله عليه وسلم كما نعلم جميعا عن أهل مكة عند فتحها ، مع إنهم ظلوا يعبئون العرب لقتاله قرابة عشرين سنة ، وكان من بينهم من ارتكب عشرات الجرائم ضد الإسلام والمسلمين .
وأختم حديثي بموقفه صلى الله عليه وسلم من مالك بن عوف الذي حشد له ثلاثين ألف مقاتل بعد أن علم بفتحه مكة ؛ لينتصر للشرك وأهله ، فلما دارت عليه الدائرة فر من أرض المعركة ، تاركا أهله وماله ليختفي في أحد الحصون ، فقال صلى الله عليه وسلم : إنه إن أتاني مسلما رددت إليه أهله وماله ، وأعطيته مائة من الإبل ، فلما بلغ ذلك مالكا انسل من حصنه حتى أتاه صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة أو بمكة ، فأسلم وحسن إسلامه ، فرد عليه أهله وماله ،وأعطاه مائة من الإبل . (16) فقال مالك :
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله * في الناس كلهم بمثل محمد
نعم من مثل محمد صلى الله عليه وسلم يجيش الرجل الجيوش لحربه ، ثم يأتيه بعد فراره فردا ، فيكرمه هذا الكرم ؟ ومن بعد ذلك يجرؤ على أن يصف شرعه بأنه يدعو للقسوة والعنف والإرهاب ؟! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
(1) فقد قرر جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية وبعض الحنابلة أن مناط القتال هو الحرابة والمقاتلة والاعتداء، وليس محض الكفر فلا يقتل شخص لمخالفته للإسلام أو لكفره، وإنما يقتل لاعتدائه على الإسلام، فغير المقاتل لا يجوز قتاله، وإنما يلتزم معه جانب السلم , وقال ابن تيمية في ( رسالة القتال ) :إن سيرة رسول الله تدل على أن من سالمه لم يقاتله .
(2) سورة " النساء "74: 75
(3) سورة المائدة : الآية 32
(4) سورة " الكهف " الآية 29
(5) سورة "الحج ": الآية 40
(6) سورة "البقرة " الآية251
(7) خرجه النسائي والبيهقي والحاكم وصححه
(8) تهذيب سنن أبي داوود
(9) سورة " الحج " الآية : 39
(10 ) رواه ابن إسحاق
(11 )مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي
(12 )البداية والنهاية لابن كثير
(13) كشف الخفاء للعجلوني
(14 ) مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي
(15) المستدرك على الصحيحين للنيسابوري
(16) رواه الطبراني وقال رجاله ثقات
المصدر : موقع التاريخ