تمت أعمال الدعوة ، وإبلاغ الرسالة، وبناء مجتمع جديد على أساس إثباتالألوهية للّه، ونفيها عن غيره، وعلى أساس رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكأنهاتفاً خفياً انبعث في قلب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، يشعره أن مقامه فيالدنيا قد أوشك على النهاية، حتى إنه حين بعث معاذا على اليمن سنة 01هـ قال له ـفيما قال: "يا معاذ، إنك عسي ألا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذاوقبري " ، فبكي معاذ خشعاً لفراق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
وشاء اللّه أن يري رسوله صلى الله عليه وسلم ثمار دعوته، التي عانيفي سبيلها ألواناً من المتاعب بضعاً وعشرين عاماً ، فيجتمع في أطراف مكة بأفرادقبائل العرب وممثليها، فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، ويأخذ منهم الشهادة علىأنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة.
أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهودة،فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللّه صلى الله عليه وسلم. ، وفييوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم للرحيل ،فتَرَجَّل وادَّهَنَ ولبس إزاره ورداءه وقَلَّد بُدْنَه، وانطلق بعد الظهر، حتى بلغذا الحُلَيْفَة قبل أن يصلي العصر، فصلاها ركعتين، وبات هناك حتى أصبح ، فلما أصبحقال لأصحابه: " أتاني الليلة آت من ربي فقال: صَلِّ في هذا الوادي المباركوقل : عمرة في حجة".
وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بيدها بذَرِيَرةوطيب فيه مِسْك، في بدنه ورأسه، حتى كان وبَيِصُ الطيب يري في مفارقه ولحيته، ثماستدامه ولم يغسله ، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلي الظهر ركعتين ، ثم أهل بالحجوالعمرة في مُصَلاَّه، وقَرَن بينهما، ثم خرج، فركب القَصْوَاءَ، فأهَلَّ أيضاً، ثمأهَلَّ لما استقلت به على البَيْدَاء.
ثم واصل سيره حتى قرب من مكة، فبات بذي طُوَي، ثم دخل مكة بعد أنصلي الفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 01هـ ـ وقدقضي في الطريق ثماني ليال، وهي المسافة الوسطي ـ فلما دخل المسجد الحرام طافبالبيت ، وسعي بين الصفا والمروة، ولم يَحِلَّ ؛لأنه كان قارناً قد ساق معه الهدي،فنزل بأعلى مكة عند الحَجُون، وأقام هناك ، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج.
وأمر من لم يكن معه هَدْي من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة،فيطوفوا بالبيت وبين الصفا المروة، ثم يحلوا حلالاً تاماً، فترددوا، فقال: " لواستقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت " فحل من لم يكنمعه هدي، وسمعوا وأطاعوا.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة ـ وهو يوم التَّرْوِيَة ـ توجه إلىمنى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ـ خمس صلوات ـ ثم مكث قليلاًحتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بَنَمِرَة ، فنزل بها ،حتى إذا زالت الشمس أمر بالقَصْوَاء فرحلت له، فأتي بطن الوادي، وقد اجتمع حولهمائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفاً من الناس ، فقام فيهم خطيباً، وألقىهذه الخطبة الجامعة:
"أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عاميهذا بهذا الموقف أبداً" .
"إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا،في بلدكم هذا ، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهليةموضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ـ وكان مسترضعاً في بنيسعد فقتلته هُذَيْل ـ وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله" .
"فاتقوا اللّه في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه، واستحللتمفروجهن بكلمة اللّه ، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلكفاضربوهن ضرباً غير مُبَرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" .
"وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب اللّه".
"أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم،وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم،وأطيعوا أولات أمركم، تدخلوا جنة ربكم ".
"وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قدبلغت وأديت ونصحت.
فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس:"اللهم اشهد" ثلاث مرات.
وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ وهوبعرفة ـ ربيعة بن أمية بن خَلَف.
وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليهقوله تعالى: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا " [المائدة: 3]،ولما نزلت بكى عمر رضوان الله عليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك؟" قال:أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص،فقال: "صدقت".
وبعد الخطبة أذّن بلال ثم أقام ، فصلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلمبالناس الظهر، ثم أقام فصلي العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب حتى أتي الموقف،فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصَّخَرَات ، وجعل حَبْل المشاة بين يديه ، واستقبلالقبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القُرْص.
وأردف أسامة، ودفع حتى أتي المُزْدَلِفَة، فصلي بها المغرب والعشاءبأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبّح بينهماشيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلي الفجرحين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتي المَشْعَرَ الحرام،فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلّله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسْفَر جِدّا.
فَدَفَع ـ من المزدلفة إلى منى ـ قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بنعباس حتى أتي بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطي التي تخرجعلى الجمرة الكبرى ، حتى أتي الجمرة التي عند الشجرة ـ وهي الجمرة الكبرى نفسها،كانت عندها شجرة في ذلك الزمان، وتسمى بجمرة العَقَبَة وبالجمرة الأولي ـ فرماهابسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخَذْف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرفإلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطي علياً فنحر ما غَبَرَ ـ وهي سبعوثلاثون بدنة ، تمام المائة ـ وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت فيقِدْر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مَرَقِها.
ثم ركب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكةالظهر، فأتى على بني المطلب يَسْقُون على زمزم، فقال: "انزعوا بني عبد المطلب،فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم " فناولوه دلواً فشرب منه.
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ـ عاشر ذي الحجة ـ أيضاًحين ارتفع الضحى، وهو على بغلة شَهْبَاء، وعلي يعبر عنه ، والناس بين قائم وقاعد ،وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس، فقد روى الشيخان عن أبي بكرة قال:خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: "إن الزمان قد استدار كهيئتهيوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثمتواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضَر الذي بين جمادي وشعبان".
وقال: "أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتىظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: " أليس ذا الحجة؟: قلنا: بلى؟ قال:("أي بلد هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغيراسمه، قال: "أليست البلدة؟" قلنا: بلى. قال: " فأي يوم هذا؟قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: " أليسيوم النحر؟" قلنا: بلى. قال: " فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامكحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ".
"وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاًيضرب بعضكم رقاب بعض " .
"ألا هل بلغت؟)" قالوا: نعم، قال: "اللهم اشهد، فليبلغالشاهد الغائب، فَرُبَّ مُبَلَّغ أوعي من سامع".
وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة: "ألا لا يجني جَانٍ إلا علىنفسه، ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد يئس أنيُعْبَد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضىبه ".
وأقام أيام التشريق بمني يؤدي المناسك ويعلم الشرائع، ويذكر الله،ويقيم سنن الهدي من ملة إبراهيم، ويمحو آثار الشرك ومعالمها.
وقد خطب في بعض أيام التشريق أيضاً، فقد روي أبو داود بإسناد حسن عنسَرَّاءِ بنت نَبْهَانَ قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس،فقال: " أليس هذا أوسط أيام التشريق". وكانت خطبته في هذا اليوم مثل خطبتهيوم النحر، ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سورة " النصر" .
وفي يوم النَّفْر الثاني ـ الثالث عشر من ذي الحجة ـ نفر النبي صلىالله عليه وسلم من مني، فنزل بخِيف بني كِنَانة من الأبْطَح، وأقام هناك بقية يومهذلك ، وليلته، وصلي هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة ، ثم ركب إلىالبيت ، فطاف به طواف الوداع ، وأمر به الناس.
ولما قضي مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظاً منالراحة، بل ليستأنف الكفاح والكدح لله وفي سبيل الله.
مقتبس من كتاب " الرحيق المختوم "