بقلم / جعفر الموسي
لقد شاء خالق الأكوان أن يكون ذلك اليتيم القادم من وادٍ غير ذي زرع أعظم عظماء الدنيا بأسرها، وأن يتمكن أتباعه من قلب موازين القوى والأحداث في الخارطة العالمية، ويصدق العقاد حينما يذهب إلى "أن التاريخ كله متصل ومرهون بعمل محمد صلى الله عليه و آله و سلم "فالرسول القائد صلى الله عليه و آله و سلم " لعب دوراً محورياً في التغيير العام للبشرية من خلال الدعوة التي اختاره الله لها، وبالرغم من كل المهام الصعبة التي أوكلت إليه فهو لم يفكر يوماً بالتخلي عن أداء واجبه، ولم يدر في خلده أبداً الهروب من المواجهة، بل على العكس كان قائداً حكيماً يجيد فن التوقيت ، كما يجيد فن الصبر والاحتمال وسياسة النفس الطويل، وفوق ذلك كله فهو السياسي المحنك، والقيادي الفذ الذي تدين له البشرية جمعاء.
وفي الكتاب الذي ألفه المفكر والمؤرخ الأمريكي (ميتشل هارت) وترجم فيه لأعظم الشخصيات في التاريخ وضع الرسول محمداً صلى الله عليه و آله و سلم الأول في ترتيب العظماء، وحجته في ذلك "أنه الوحيد الذي نجح نجاحاً لا نظير له على المستوى الديني والدنيوي، وأنه نشأ في محيط بسيط ، بعيدا عن الفنون والعلوم، واستطاع في زمن قصير أن يستقطب جميع القبائل العربية في جزيرة العرب، ويجعلها بحكمته وسياسته تدخل في الإسلام عن قناعة وإيمان مستعيناً في ذلك ببلاغة القرآن ".
ويضيف هارت قائلاً:" لأول مرة يتوحد العرب على يديه ؛ ليكونوا صفاً واحداً تحت كلمة الله، إنه أعظم سياسي وجد في العالم، فقد وضع سياسة الفتوح التي سار عليها المسلمون وأنشئوا على أسسها إمبراطورية واسعة تدين شعوبها بالإسلام وتتكلم لغة القرآن".
ثم ينتهي بقوله: "إن الأحداث التاريخية يمكن أن تحدث دون قائد أو زعيم , ولا يمكن القولإن العرب كان يمكنهم أن يقوموا بتلك الفتوحات دون وجود محمد الرسول".
هنا محاولة سريعة لتسليط الضوء على نماذج من سياسة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم الحكيمة عبر سياسته الداخلية والخارجية.
السياسة الخارجية:
لابد لأي دولة في العالم من التعامل والتعاطي مع الدول المجاورة عبر سياسة خارجية متبناة من قبل القيادة في تلك الدولة، وتتنوع العلاقات الخارجية على التعاون , وحسن الجوار , وتبادل الزيارات , وإبرام الاتفاقيات , وتقريب وجهات النظر، وقد تكون العلاقات بين دولة وأخرى تسودها القطيعة والجفاء أحياناً وصولاً إلى الخصومة والحرب.
والرسول باعتباره صاحب الرسالة الإسلامية العالمية كان لزاماً عليه أن يحيط بما يجري حوله في الدول المجاورة، ومعرفة أخبارها ، وبالتالي دعوتها إلى الإسلام، وفعلاً أثبت الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مقدرته وبراعته في التحرك الخارجي عبر بُعد النظر , وتشخيص الصالح من الطالح، والتقدير المناسب للأمور والقدرة الفائقة في عملية الكسب إلى الإسلام .
اتصالات ودعوات :
من الطبيعي أن يتبنى الأنبياء عملية الاتصالات الخارجية من أجل تبليغ الرسالة بالرغم من ضعف وسائل الاتصال آنذاك، ولم تكن العملية يسيرة أبداً، حيث بادر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في بادئ الأمر إلى مخاطبة الملوك ورؤساء القبائل عبر إرساله الموفدين والمندوبين من قبله وهم يحملون رسائله الشفوية والخطية التي كانت رائحة الإسلام تفوح من بين كلماتها.
ولعل أول تلك المراسلات الخارجية للرسول صلى الله عليه و آله و سلم كانت مع النجاشي، حيث جاء فيها:" بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، سلام عليك، أحمد الله الذي لا إله إلا هو الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول، الطيبة، الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده.... الخ.
وتلك المناغمة الحكيمة من قبل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مهّدت الأرضية فيما بعد تماماً إلى اختيار الحبشة لهجرة المسلمين إليها بعد اشتداد الضغط عليهم، حيث إن موقف النجاشي معروف عند سرد أحداث هجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة.
ولم تقتصر القائمة التي أعدها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في التحرك على الصعيد الخارجي وإيصال الدعوة الإسلامية إلى أبعد نقطة على النجاشي فقط، حيث ضمت تلك القائمة هرقل عظيم الروم , وأسقف الروم في القسطنطينية، أسقف إيله، وكاتب ملوك العرب والمقوقس عظيم القبط في مصر وكسرى ملك الفرس.
والمصاهرة هي إحدى المحاور التي تحرك عليها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وهو في طريقه إلى الاتصال بالأقوام والقبائل الأخرى، وقد استطاع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من خلال تلك العملية أن يختصر الكثير من الوقت وهو يهم بانتقال الدعوة الإسلامية من حيز أمة العرب إلى بقية القوميات والمذاهب الأخرى.
فزواجه من جويرية بنت الحارث (سيدة بني المصطلق) كان نعمة عظيمة على قومها، حيث كانت النتائج المباشرة لذلك الزواج إطلاق سراح مئات الأسرى من أبناء تلك القبيلة التي وقعوا أسرى بيد المسلمين، كما انشدّوا إلى المسلمين برباط من الصداقة، فدخلوا الإسلام فيما بعد.
أما اليهود فلم ينس الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أن يكسبهم عن طريق البناء بامرأة من نبيلاتهم، وذلك أعقاب فتح خيبر سنة 7هـ وهي صفية بنت حُييّ (عقيلة بني النضير) التي طالما افتخرت بزواجها من النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمام اليهود عبر قولها زوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى.
فيما وهب الأقباط في مصر إحدى نسائهم إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فلم يردها الرسول إليهم وتزوجها* ، وهكذا فتح الرسول صلى الله عليه و آله و سلم جسراً ممتداً من العلاقات ما بين مصر والجزيرة العربية حتى إن الرسول استوصى بهم حيث قال:"استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً".
هذا وقد مارس الرسول صلى الله عليه و آله و سلم السياسة بمفاهيم مثالية قد لا يستوعبها الناس آنذاك، مع إنه عاش الواقع ومارس (فن الممكن) فتحالف مع مشركين في حلفه مع خزاعة، وتعاقد مع يهود في الصحيفة، فلم ينقض عهداً , ولم يغدر بعدوٍ , ولم يتخلّ عن صديق.
مفاوضاتالحديبية :
تمخضت مفاوضات الحديبية عن عقد اتفاقية صلح وهدنة بين المسلمين وقريش تضمنت شروطاً عديدة اتفق عليها الطرفان.
والمتتبع لمجريات أحداث هذا الصلح يلمس وبوضوح مدى المقدرة السياسية في تنظيم ذلك الميثاق وكتابته، حيث استطاع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أن يهيئ الأرضية لانتشار الإسلام في المناطق الأخرى , فلقد دخلت في الإسلام العديد من القبائل بعد توقيع الصلح , وبعد أن أزيل الخوف عنها حيث اعترفت قريش في ميثاق هذا الصلح بالكيان الإسلامي بصورة رسمية ؛ مما أعطى المسلمين فرصة في التغلغل في صفوف الأمة من خلال نشاطهم التبليغي , ودعوتهم إلى الإسلام.
تلك الجهود التبليغية أثمرت فيما بعد عن فتح مكة بعد عامين من اتفاقية الصلح بعشرة آلاف مسلم بعد أن كان عدد المسلمين عندما قدموا إلى مكة لا يتجاوز الألف وأربعمائة مسلم.
ومن هنا تتجلى فائدة هذا الصلح في توسيع الكيان الإسلامي، حيث يعدّ هذا الصلح خطوة في انتصار الإسلام بما لا يقبل التشكيك والمجادلة ، ورغم أن أصواتاً تعالت من بعض صحابة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تعارض بعض بنود الاتفاقية فيما بعد، إلا أن الرسول آثر الالتزام بعهده، وبهذا فقد أبطل الرسول فصول جميع الدعايات المضادة التي كانت تروج ضده، حيث أثبت للجميع أنه حقاً رجل السلام، وداعية خير للبشرية، ومع العلم أن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لم يبرم هذه الاتفاقية مع قريش بسبب ضعفه العسكري والمعنوي، فلو كان قاتل قريشاً وقتها فمن حكم المؤكد أن يغلبها , وقد صرحت بذلك الآية الكريمة "ولو قاتلكم الذين كفروا لولّوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً" (الفتح: 22).
السياسة الداخلية :
تسيير أمور البلاد ضمن حدودها، والقضاء على المشاكل الداخلية والعمل على إيجاد مشاريع مستمرة من أجل المصلحة الداخلية للبلاد , ترافقها سياسة حكيمة وعقلية راجحة، هذه هي أبرز محاور السياسة الداخلية الناجحة ، والسياسة الداخلية التي اتخذها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة قادت إلى إيجاد دولة خضعت إلى التطور باستمرار حتى تفوقت على جميع الدول التي عاصرتها في جميع الميادين.
المؤاخاة :
استطاع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بعد استقراره في المدينة من تكوين نواة أمته من أبطال يسترخصون الحياة في سبيل الله والدين الجديد، ولذلك كان أول ما قام به الرسول صلى الله عليه و آله و سلم هو تنظيم صفوف المهاجرين والأنصار عبر المؤاخاة.
إن أبرز الدوافع التي تقف وراء طرح الرسول لمشروع التآخي هو أن المسلمين كانوا –وقتها- يواجهون الكثير من المصاعب التي تتطلب التعاون والتعاضد لتذليلها ، وهكذا أراد النبي صلى الله عليه و آله و سلم بهذا المشروع أن يسمو بعلاقات هذا الإنسان عن المستوى المصلحي , وجعلها علاقة إلهية تصل إلى درجة الأخوة، وقد كرس الرسول من خلال هذا المفهوم أيضاً الوحدة السياسية والمعنوية بين المسلمين، كما قوّى أسسها ودعائمها.
ومن الطبيعي أن يهتم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالواقع الشعبي لأمته آنذاك، فالدولة – كما هو معلوم- لها ثلاثة أركان، وأحد أهم أركان هذه الدولة هو الشعب ، أما الركنان الآخران فهما الأرض والسلطة. ولهذا بدأ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالركن الأول وهو إعداد المسلمين عقائدياً ونفسياً وعسكرياً، فأية دولة لا تقوم على قاعدة شعبية تجعل من المواطنين مجموعة من اللا مبالين الذين يتراجعون بالدولة إلى الوراء.
وقد استمر مشروع التآخي الذي طرحه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة حتى عزّ الإسلام، واجتمع الشمل بعد أن ذهبت آثار الغربة المملوءة بالوحشة.
الصحيفة نظامداخلي :
كان من أكبر الانتصارات السياسية التي أحرزتها الحكومة الإسلامية الفتية بقيادة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تلك الصحيفة التي أعدها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والمتضمنة معاهدة للتعايش والدفاع المشترك بين الأنصار والمهاجرين والتي وقع عليها يهود المدينة من الأوس والخزرج، أما يهود بني النضير وبني قينقاع وقريظة فقد عقد الرسول معهم معاهدة مستقلة.
وهذه الشمولية التي احتوتها الصحيفة كانت تعبر عن مدى بعد النظر الذي يتحلى به الرسول وهو يدوّن بنود الصحيفة التي تعتبر نظاماً داخلياً متكاملاً لحكومة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم آنذاك، فهو يرتب أحوال المهاجرين والأنصار , ويستعرض احتمالات الغزو على المدينة , وما يجب أن يحتمله المسلمون والقبائل الأخرى، وكذلك إنصافه ليهود المدينة في الحقوق والامتيازات والواجبات إلى غيرها من الأمور العامة التي تضمنتها الوثيقة.
وفضلاً عن هذا كله فإن الصحيفة تضمنت مبادئ عامة، درجت دساتير تلك الدول الحديثة على تبنيها , وفي طليعة هذه المبادئ تكوين الأمة وتعريفها وبيان الحقوق والواجبات المترتبة على الجميع، وهذا بالطبع -آنذاك- جديد كل الجدة في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب، إذ نقل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قومه من شعار القبيلة والتبعية إلى شعار الأمة التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، فقد قالت الصحيفة: " إنهم أمة واحدة".
وفي تلك الصحيفة أيضاً استكمل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أركان دولته، فقد أصبح لديه أناس مؤمنون برسالته، وأرض يقيم عليها أولئك الناس ، ويخضعون لسلطة سياسية واحدة هو رئيسها والمرجع الأعلى فيها.
المصدر : موقع مجلة النبأ العراقية ( الشيعي )، العدد37 ، جمادى الآخرة سنة 1420هـ.
..................................................................................
* لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية القبطية , وإنما كانت سرية له ( إدارة الموقع ).