إن الأساس الأول الذي شاد عليه الإسلام بناءه الاجتماعي هو الأخوة بين أفراده جميعا.. فمن الطبيعي وهو مجتمع يقوم على عقيدة تجمع بين أبنائه أن يجعل منها رابطة قوية تشدّ كل المسلمين ، وتؤلف بين قلوبهم.
إنه يجعل هذه الأخوّة علاقة حقيقية تزيد على علاقة الدم والنسب وتفضلها.. وقد كان الإسلام بذلك أول من أقام مجتمعا على أساس رابطة روحية يجعل لها الاعتبار الأول، ويعتمد عليها في تقرير الحقوق والواجبات.
إنه يجعل هذه الأخوّة علاقة حقيقية تزيد على علاقة الدم والنسب وتفضلها.. وقد كان الإسلام بذلك أول من أقام مجتمعا على أساس رابطة روحية يجعل لها الاعتبار الأول، ويعتمد عليها في تقرير الحقوق والواجبات..
ففي المجتمع المكي كان رباط الأخوة هو الأساس المتين الذي يتجمع حوله المسلمون دون اعتبار لما كان بين العرب قبل الإسلام من روابط تقوم على الأنساب والأجناس والتعصب لها.. ففي الإسلام لا تفاخر بالأنساب ولا اعتبار للجنس، فالإسلام يرفض أن يفترق الناس أجناساً مختلفة ، وأن تفصل بينهم فواصل من صنع أيديهم.
ولهذا فقد احتضن المجتمع الإسلامي الأول المسلمين من كل جنس ومن كل لون، ولم يجد الفارسي أو الرومي أو الحبشي حائلاً يمنعهم من الانتساب لهذا المجتمع ، بل والتصدر فيه..
وكانت هذه الأخوة نوعا جديداً من العلاقات لم يعهده المجتمع العربي قبل الإسلام، إذ كان ذلك المجتمع يقوم على رباط النسب والجنس ، فجاء الإسلام ليجعل الترابط في مجتمعه يقوم على أساس روحي وفكري من وحدة العقيدة ووحدة الغاية، متخطياً في ذلك الروابط التي تحمل في طياتها عوامل التفكك وبذور الانهيار.
وكان المسلمون في المجتمع المكي صفاً من العاملين، أخذوا هذه الدعوة أول أمرها ألماً وعناءً ، ولم يكن في طبيعة الدعوة الإسلامية ما يجذب غير العاملين المخلصين.. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم رمزاً للإسلام وأفقاً واسعاً من الصبر والاحتمال، وظلّ يلاقي من العنت ما ذهب بماله ومال زوجه وأصحابه، وكان يمرّ على المستضعفين من أصحابه فيقول:" صبراً لا املك لكم من الله شيئاً".
وبذلك خلّى ما بينهم وبين ربهم وعرضهم عرضاً مباشراً للمحنة ، واحتمل معهم ما يحتملون..
والمؤمنون يرون هذا ، ويحمل كل فرد ما يطيق من البلاء.. لقد دخلوا الإسلام مغارم من أول يوم عرفوا فيه الإسلام ، وآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم على أنّه مبلّغ لا على أنه قادر على حمايتهم أو الانتصار لهم.
ورغم هذه الآلام جميعاً كانت لهم عبادتهم المحبّبة ، وأخوّتهم الخالصة ، ووقفاتهم الطويلة التي يفرضونها على أنفسهم.. وتكوّنت المجموعة الإسلامية الأولى، فكانت مجموعة عالمية تدعو لدين عالمي ، وأُخوة عالمية تفنى فيها فروق الجنس واللون والطبقات، فالناس كلهم إخوة ينتسبون إلى أب واحد، ويعبدون رباً واحداً..
وقام المجتمع الإسلامي على أساس من التكافل والتكامل والتفاهم.. وكان في تكامله وتفاهم أعضائه ما جعل كل عضو فيه يؤدي واجبه، ويقوم بالعمل الذي تؤهله له مواهبه، ويمنحه المجتمع من الطاقة ما يكفيه للسير في هذه المهمة.. فإذا اشتكى عضو ظهر التكافل واضحاً فيتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى..
فالإسلام أقام عدالته الاجتماعية على هذا المعنى الدقيق من التكافل ووحدة الشعور.. بل وكان في هذا المجتمع الكريم ما هو أسمى من العدالة الاجتماعية.. كان فيه الكرم الاجتماعي والغذاء الاجتماعي.. وبه كان يدفع الفرد أكثر مما يُطلب منه، ويبذل أكثر مما طلب منه الشرع الإسلامي.. إذ لم يكن الأمر أمر مال فقط ، ولكنهم كانوا جسداً واحداً له شعور واحد ، وهدف واحد ، وكيان واحد ، ومصلحة واحدة.
ومن أهم المظاهر التي تدلّ على هذا:
1_ التكافل الاقتصادي: كان أغنياء المسلمين ينفقون الأموال لتحرير إخوانهم من الرّق، ومن الأمثلة على ذلك أبو بكر الصديق كان له مال كثير، أنفقه على عتق الرقيق المعذبين.. وهم قوم خالط الدين قلوبهم ، وخالفوا ساداتهم في الإيمان، وثبت هؤلاء الضعفاء على إيمانهم رغم ما أصابهم من أذى وإرهاق.. ويروي لنا التاريخ أن أبا فكيهة كان عبداً لصفوان بن أمية ، وأنه أسلم مع بلال فكان من السابقين الأول، وقد أخذه أمية بن خلف وربط في رجله حبلا، وأمر به فجرّ ، ثم ألقاه في الرمضاء، وخنقه خنفاً شديداً.
وكان أخوه أبي بن خلف يقول زده عذاباً حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره، ولم يزل على تلك الحال حتى ظنّوا أنه مات ، ثم أفاق فمرّ به أبو بكر فاشتراه وأعتقه.
وتكرّرت هذه الحوادث مع عمار وبلال وغيرهم كثير، فما كان من أغنياء المسلمين إلا أن جعلوا مالهم فداء لإِخوانهم في العقيدة حتى يخففوا عنهم بعض ما يحملون من الألم.
واشتد العذاب بالمسلمين جميعاً حين قاطعتهم قريش اقتصادياً ، وألجأتهم إلى شعب أبي طالب، فوضع المسلمون مالهم بين يدي المحنة ترعاه حتى أتت عليه ، ومضت الأعوام الثلاثة ، وفنيت أموال المسلمين حتى أكلوا ورق الشجر من الفقر والجوع.
2_ رد الجوار: لقد دخل بعض الصحابة في جوار نفر من أقوياء الكفار، ولكن أمر الأذى اشتد بإخوانهم فلم تطب نفوسهم بأن يعيشوا في مكة آمنين وإخوانهم في العذاب ، فما كان منهم إلا أن ردّوا الجوار إلى أصحابه ، واقتحموا لهيب العذاب سعداء بما يلقون في جنب الله..
ويروي ابن هشام في كتابه (السيرة النبوية) فيقول: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلاء وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة قال: والله إن غدوّي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك ، وقد رددت إليك جوارك، قال له: يا ابن أخي لعله آذاك أحد من قومي: قال: لا ولكنني أرضى بجوار الله ، ولا أريد أن أستجير بغيره.
قال: فانطلق إلى المسجد فاردد علي جواري علانية كما أجرتك علانية ،
قال: فانطلقنا فخرجا حتى أتيا المسجد فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري: قال: صدق قد وجدته وفيا كريم الجوار ، ولكني أحببت أن لا أستجير بغير الله فقد رددت عليه جواره ، ثم انصرف وعثمان ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب في مجلس من قريش ينشدهم فجلس معهم عثمان ، فقال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، فقال عثمان صدقت قال: وكل نعيم لا محالة زائل، قال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.
قال لبيد بن ربيعة: يا معشر قريش والله ما كان يؤذى جليسكم ، فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا فلا تجدن في نفسك من قوله.
فرد عليه عثمان حتى سرى أمرهما ، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخفرها ، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان.
فقال: أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية ، لقد كنت في ذمة منيعة ،قال عثمان: بل والله إنّ عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله ، واني والله لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس ، فقال له الوليد: هلمّ يا ابن أخي إن شئت إلى جوارك فعد ، فقال: لا.
كما ردّ أبو بكر جوار ابن الدغنة سيد الأحابيش حينما طلب إليه أن يكف عن تلاوة القرآن في المسجد قائلا: أرد عليك جوارك ، وأرضى بجوار الله.
3_ الفداء: ومن نتائج وحدة الشعور عند المسلمين تقديرهم العميق لرسول الله صلى الله عليه وسلم كرمز لهذه الدعوة، ومما يدل على هذا ما حدث وقت الهجرة حين نام علي بن أبي طالب في فراش الرسول ، وتسجّى ببرده وخرج الرسول مهاجراً إلى ربّه..
وهكذا كانت أخوة الإسلام تملأ قلوب المسلمين وأرواحهم ، وتجعل منهم دروعاً تحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفديه.
لقد كانوا قوما أحبّوا هذا الدين من قلوبهم حباً صادقاً، ولم يأخذوا الإسلام (وظيفة) يؤدون منها عملا، أو وراثة يحيون فيها، وإنما أخذوه روحاً وعقيدة توجه كل أوضاع حياتهم.
ولهذا لم ير العالم كأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قوماً من مختلف العناصر والبيئات والأجناس والطبقات اجتمعوا على التضحية هذا الاجتماع الرائع، وبذلوا لأخوّتهم هذا البذل السّخي.
في المجتمع المدني:
عندما وصل المهاجرون إلى المدينة تنافس فيهم الأنصار فحكّموا القرعة بينهم ، فما نزل مهاجر على أنصاري إلا بقرعة.. وكانوا يؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم.. وسجل القرآن ذلك الموقف الفريد: "والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون".
وحتى يُمكّن الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم هذا الإخاء آخى بين المهاجرين والأنصار ، فكان كل أنصاري ونزيله أخوين في الله ، ويستطيع الإنسان أن يدرك بحسه الإسلامي أن هذه الأخوة كانت أرقى بكثير من الأخوة العصبية.. فهي قلوب ألّف الله بينها حتى صارت شيئاً واحداً في أجسام متفرقة.. حتى إنهم كانوا يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام، والرسول عليه السلام يقول لكل اثنين "تآخيا في الله أخوين أخوين".. ودام هذا الميراث إلى أن أنزل الله سبحانه قوله في سورة الأحزاب: "وأولو الأرحام بعضهم أولى بعض في كتاب الله".
ولتثبيت دعائم الأخوة في هذا المجتمع الكريم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ابتدأ عمله في المدينة بإيجاد الروابط التي تربط أفراد الجماعة الإسلامية، وكوّن وحدة تضم العناصر المختلفة الأنساب والأماكن، وجعل من ذلك المجتمع المختلف أنساباً وقبائل مجتمعاً مؤتلفا في شعوره، تُمحى فيه الفوارق.
لقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرين من بطون مختلفة، ووجد أنصاراً آووا ونصروا، ولكن الدماء لم تكن قد جفت بينهم ، فجاء إلى ذلك المجتمع الذي كان متنافراً؛ ليؤلف بين قلوبهم، والأمم إنما تتكون بتأليف القلوب المتنافرة، وجمعها على الحق، وأشد ما يجمع الناس على الحق _الإيمان بالله والخضوع لأحكامه..
قال السهيلي في كتابه الروض الأنف: "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حين نزلوا بالمدينة ؛ ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ، ويشد أزرهم بعضهم ببعض"..
وهذا أحد أغراض المؤاخاة.. فالمؤاخاة أولا تتجه إلى تكوين وحدة الجماعة المؤمنة، ولذلك كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أولاً، وكانت بين المهاجرين بعضهم مع بعض ثانياً، وبين الأنصار بعضهم مع بعض ثالثاً، أوسهم مع خزرجهم؛ ليقضي الرسول على الثغرة السابقة بالألفة التي تجمع القلوب، وتزيل نفورها.
فالمؤاخاة كانت لتجعل رابطة الأخوّة هي العلاقة الوثيقة بين النسيب الشريف، والمولى الضعيف، ولذلك كانت المؤاخاة بين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمؤاخاة كانت لتضع مبدأ المساواة عمليا بين أفراد الجماعة المسلمة.. قال ابن إسحاق: "وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال _فيما بلغنا، ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يُقل: تآخوا في الله أخَوين أخَوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: هذا أخي. فكان رسول الله سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخَوين، وكان حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخَوين، وإليه أوصى حمزة يوم أحد حين حضره القتال إن حدث بن حادث الموت.
وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين، الطيّار في الجنة، ومعاذ بن جبل، أخو بني سلمة، أخَوين.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ابن أبي قحافة، وخارجة بن زهير، أخو بلحارث بن الخزرج، أخوين. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعتبان بن مالك، أخو بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج أخوين ، وأبو عبيدة بن عبد الله بن الجرّاح، واسمه عامر بن عبد الله، وسعد بن معاذ بن النعمان، أخو بني عبد الأشهل، أخوين، وعبد الرحمن بن عَوف، وسعد بن الربيع، أخو بلحارث بن الخزرج، أخوين، والزبير بن العوّام، وسلامة بن سلامة بن وَقش، أخو بني عبد الأشهل، أخوين، ويقال: بل الزبير وعبد الله بن مسعود، حليف بني زهرة، أخوين.
وعثمان بن عفّان، وأوس بن ثابت بن المنذر، أخو بني النجار، أخوين وطلحة بن عبيد الله، وكعب بن مالك، أخو بني سلمة، أخوين، وسعد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، وأبي بن كعب، أخو بني النجار، أخوين. ومصعب بن عمير بن هاشم، وأبو أيوب خالد بن زيد، أخو بني النجار، أخوين. وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعبّاد بن بشر بن وقش، أخو بني عبد الأشهل، أخوين. وعمار بن ياسر، حليف بني مخزوم، وحُذيفة بن اليمان، أخو بني عبد عَبس، حليف بني عبد الأشهل أخوين.
ويقال ثابت بن قيس بن الشماس، أخو بلحارث بن الخزرج، خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعمار بن ياسر، أخوين. وأبو ذرّ، وهو بُرير بن جُنادة الغفاري، والمنذر بن عمرو، أخو بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، أخوين.
وكان حاطب بن أبي بلتعة، حليف بني أسد بن عبد العزىّ، وعُويم بن ساعدة، أخو بني عمرو بن عوف، أخوين ، وسلمان الفارسي، وأبو الدرداء، عُوَيمر بن ثعلبة، أخو بلحارث بن الخزرج أخوين.
وبلال، مولى أبي بكر رضي الله عنهما، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو رُويحة، عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي أخوين.
فهؤلاء من سُمي لنا، ممّن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من أصحابه ، وقال ابن إسحاق: فلمّا دوّن عمر بن الخطاب الدواوين بالشام، وكان بلال قد خرج إلى الشام، فأقام بها مُجاهداً، فقال عمر لبلال: إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ قال: مع أبي رُويحة، لا أفارقه أبدا، للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد بينه وبيني، فضمّ إليه، وضُمّ ديوان الحبشة إلى خَثعم، لمكان بلال منهم، فهو في خثعم إلى هذا اليوم بالشام ".
يتبين لنا من هذا العرض الكبير لعقد الإخاء العام بين المسلمين بعضهم وبعض أن هذا الإخاء يرتبط بمعنى العقيدة التي يقررها القرآن الكريم بقوله تعالى: "إنما المؤمنون إخوة".. فالإسلام دين تجميع وأُلفة.
ومن هنا يجيء الإخاء مظهراً من مظاهر الهدي الإسلامي الذي يستحق المؤمن عليه ثواب الله ورضوانه ،يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "خاتم النبيين".
إن المقصود من هذه المؤاخاة:
أولاً: عقد الألفة بين الضعيف والقوي، وتمكين الصحبة بين المؤمنين، وألاّ يتعالى مؤمن على مؤمن.
ثانياً: أن المهاجرين كانوا من قبائل مختلفة، والقرشيون منهم كانوا من بيوت متنافسة، فكان لا بد من محو العصبية والدمج بينهم بحكم أخوة الإسلام.
ثالثاً: أن الأنصار لم يكونوا متآلفين فيما بينهم، فكانت على مقربة من هدايتهم العداوة المستعرة الأوار بينهم، بين الأوس والخزرج، فكان لا بد من العمل على نسيانها، وذلك بالمؤاخاة الإسلامية.
رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما عقد المؤاخاة كان يشرع للأمة من بعده هذا النظام الذي يجمع المسلمين، ولم يكن حكما لحادثة واقعة، ولا علاجاً مقصوراً، على ما بين المهاجرين والأنصار ، بل هو تأليف للمؤمنين ، ونظام متبع، وربما تكون الحاجة إليه من بعد أشد وأكبر.
ولهذا فإن الأخوة الإسلامية تمتاز على كل أساس يهتدي إليه البشر، لأنها عقيدة قوية تحوي ركائز روحية وإنسانية، لا افتعال فيها ولا تزوير.. ولقد أصبحت هذه الأخوّة الصادقة في المجتمع الإسلامي مقياساً من مقاييس الإيمان ، يزكو بها العمل ، وتعلو بها الدرجة.. بل ترقى المحبة في الله والأخوة في الإيمان به حتى تصير أفضل الأعمال وأولاها بالقبول.. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأعمال الحب في الله".
إن هذا التصور لمنزلة الأخوة في الله يحيط العلاقة في المجتمع المسلم بهالة من نور العقيدة ، تحميها من الانفصام ، وتثبتها على الدوام، وتكفل للمجتمع الإسلامي أن يظل بمنأى عن الصراع والمنافسة..
يقول الدكتور مصطفى عبد الواحد في كتابه "المجتمع الإسلامي": "والإسلام يعلنها واضحة في مجتمعه على لسان رسوله: "لا تؤمنوا حتى تحابّوا".. والقرآن يعلن هذه الحقيقة ، وحين يبين أن الرابطة التي جمعت بين أبنائه لم تكن صنع قانون يفرض، ولم تُجتلب بغايات مادية ، ولم تدخل في نطاق المنفعة، بل صدرت عن العقيدة ونبعت من الأخوة، وتلك الآصرة لا تُشترى بشيء من الدنيا ، ولو كانت كل ما فيها من أموال، ولكنها تنبع ببساطة من القلوب المؤمنة ، حتى تسيطر عليها العقيدة ، ويدفعها الإيمان.. يقول الله سبحانه: "وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم".
وهذا ما حدث في المدينة فعلاً حين قام أول مجتمع إسلامي بعد هجرة المسلمين إليها، فكانت الأخوة بين المؤمنين الدعامة الأولى التي قام عليها المجتمع.. حيث أفلحت الأخوة في شدهم برباط متين من المحبة والإيثار.. فقد فتح أهل يثرب الذين اعتنقوا الإسلام قلوبهم لإخوانهم الذين وفدوا من مكة، على غير أرحام بينهم، بعيداً عن نطاق العصبية للقبيلة فقط، واتسعت ديارهم وأموالهم وأسواقهم لأولئك الذين هاجروا إليهم.
وهذا الذي قام به الأنصار نحو إخوانهم المهاجرين لم يصدر عن طبع أو كرم اعتاده العرب نحو من ينزل عليهم، ولكنه صدر عن إدراك لعلاقة جديدة أنشأها الإسلام بين أتباعه، هي أن المسلم أخو المسلم، وأن لتلك الأخوة حقوقاً تقتضيها، ليست عاطفة مجردة، بل هي تنظيم عملي للمجتمع الجديد يربط بين الأفراد برباط وثيق..
ولذا لم يتحرج المهاجرون من بقائهم في ديار الأنصار ، ومن اعتمادهم على عونهم فترة من الزمان، فقد قضت الأخوة على التقاليد الجاهلية التي لا تعرف ارتباطاً إلا بالقبيلة ، ولا تأوي إلا إلى العصبية والنسب.
-------------------------
المصدر: كتاب "الأخوة والحب في الله " للكاتب