المد الإسلامي عبر التاريخ (1)
إدارة الموقع
في قمة جبل «حِراء» الواقع في شمال «مكة» وفي المكان المشهور تاريخيا باسم غار " حراء " هذا المكان الذي يستغرق الصعود إليه ساعات ، يتسلق فيها الإنسان بين الصخور الوعرة بدأ المد الإسلامي ، حيث نزل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ـ الذي تعوّد أن يعتزل الناس فيه بعض الأيام والليالي ، متفكرا متدبرا في ملك الله وعظمته بعيدا عن حياة الصخب التي غالبا ما تهيمن على فكر الإنسان فتشغله بلهوه وملذاته أو مشاكله وأعبائه عن التأمل في مصيره وغايته من الحياة ـ أول آيات القرآن الكريم ، ذلكم الكتاب الذي يحوي الأسس اللازمة لحياة الإنسان حياة مستقيمة ومعتدلة ، تناسب طبيعته كمخلوق مميز على سائر المخلوقات ، وملبية - بانسجام - كل حاجاته.
تلكم الآيات التي أمرته أولا بالتعرف على خالق الإنسان , وكيفية خلقه ، والغاية من خلقه " اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ".
فتلقاها محمد صلى الله عليه وسلم وهبط بها ذاهبا إلى بيته وسط مكة ، ليجد هنالك -بعد أن سكن فؤاده- الملك ( روح القدس جبريل ) الذي نزل عليه بالغار مبلغا إياه أمر الله له بأن يشرع في توصيل رسالة الإسلام إلى الناس جميعا بعد أن يؤمن بها " يا أيها المدثر ، قم فأنذر ، وربك فكبر ، وثيابك فطهر ، والرجز فاجر ....." .
تلكم الرسالة التي تتمثل في نشر الحب والسماحة والمودة والرحمة بين الناس , وبر الوالدين , وصلة الأرحام , وإطعام الفقراء والمساكين واليتامى وكسوتهم , ومساعدة المحتاجين , والوفاء بالعهد ، والصدق والأمانة والكرم , وحسن الحديث , واحترام الصغير للكبير , وعطف الكبير على الصغير, والإحسان إلى الجيران , وحسن المعاشرة بين الأزواج .
وتعلم العلم الذي يفيد البشرية , ونظافة البدن والملابس والبيوت والطرق , والمحافظة على الصحة والتجمل والتزين , وإتقان العمل , ونصرة المظلومين , وتحرير العبيد , واحترام آدمية الإنسان الذي خلقه الله بيديه ، وكرمه على سائر المخلوقات , ونشر الخير في الأرض , والرفق بالحيوان ورحمته , والاهتمام بزراعة الأشجار التي تفيد الإنسان وغير الإنسان , والمحافظة على الطبيعة التي وهبها الله لنا .
والنهى عن الاعتداء , وسفك الدماء إلا بالحق , وعن الوقوع في الفواحش وسائر المنكرات ، وتناول المسكرات والخمور والمخدرات التي تضر بجسم الإنسان وتذهب بعقله ، وعن الكذب والخيانة والغدر ، وقول الزور ، وأكل الميتة , وعن السرقة والاغتصاب , وأكل مال اليتيم , وأكل أموال الناس بالباطل , وأخذ الرشوة , والحذر من الظلم , والتجبر والإفساد في الأرض , ومن نقص المكيال والميزان في البيع والشراء , والتعصب للون أو الجنس , وقتل الحيوانات لغير الحاجة أو إيذائها , وقطع الأشجار النافعة إلا لضرورة وحاجة .
وكان رد فعله لذلك الأمر الإلهي "قم فأنذر " هو قوله لزوجه "ذهب النوم يا خديجة " أي ذهب وقت الراحة , وكيف ينام وقد كلفه الله بإرجاع البشرية في مشارق الأرض ومغاربها إلى مسارها الصحيح ، إلى رشدها ، إلى فطرتها التي فطرها الله عليها , بعد أن أغواها الشيطان فضلت , وانحرفت عن طريق الخير , بل ومواجهة كل جبار أو طاغ أو باغ أو سفيه يحول بينه وبين أداء تلك المهمة ؟!! .
وانطلق صلى الله عليه وسلم إلى إنذار الناس كما أُمر , جاعلا شعاره " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " فأسرعت زوجه " خديجة " بالاستجابة له , وآمنت به , وأعانته على أمره , وكان لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له ، فيحزنه ذلك ، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها ، تثبته وتخفف عليه ، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس ، فكانت مثالا للمرأة المخلصة بحق لزوجها.
وتبعه على دينه أيضا بناته (1), إذ كن مثل أمهن أسرع استجابة ، وأكثر طاعة له , وأسلم خادمه زيد بن حارثة , وابن عمه " علي بن أبي طالب " وكان ربيبه (أي نشأ وتربى معه ) وهكذا اجتمع شمل الأسرة على الإسلام بعد أيام قليه من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم دعا صديقه أبا بكر فأسرع دون تردد بإعلان إسلامه؛ لما كان يعرفه من صدقه صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يقول على الله إلا الحق حتى قال عنه رسول الله : "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد ، إلا ما كان من أبي " (2)أي إنه بادر إليه .
وصار صلى الله عليه وسلم يدعو من يعرفه إلى دينه هذا سراً وجهراً , كما يقول الزهري ، فاستجاب له من شاء من أحداث الرجال ( صغار السن )وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به , كما شاركه في نشر دعوته أصحابه الذين أسلموا معه ، وخاصة أبو بكر الصديق الذي بادر بدعوة زوجته وأبناءه إلى اعتناق الإسلام فأسلم أكثرهم , ولم يترك أحدا من أصحابه المقربين إلا وأرشده إلى خير هذا الدين , معتمدا على مكانته بين الناس , إذ كان كما قال ابن إسحاق " " رجلا تاجرا ، ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر ، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته "(3).
وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقي بمن أسلموا معه فرادى و جماعات بعيدا عن أعين المشركين ؛ حتى لا يحدث احتكاك أو صدام بين الطرفين ( المسلمين والمشركين ) وكان يربيهم في لقاءاته على مبادئ توحيد الله سبحانه وتعالى , ويرغبهم في تزكية النفوس , ويحثهم على مكارم الأخلاق ، والتحلي بالفضائل ، والبعد عن الرذائل .
ويقرأ عليهم آيات الله التي تصف الجنة , وما أعده الله فيها لمن أطاعه مثل قوله تعالى:" مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ "(4) وقوله: " فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ "(5).
والآيات التي تصف النار وما يلقاه الكفار والمعاندون فيها من عذاب مثل قوله تعالى " وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ولا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِؤُونَ (6) وقوله تعالى:"يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ كَلا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى . وقوله تعالى:"إنها ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالة صفر، ويل يومئذ للمكذبين"(7).
وهذه الآيات لم يكن يتلوها عليهم مجملة, وإنما في مواقف متنوعة, فالله سبحانه وتعالى كان يذكر التكليف في القرآن ثم يتبعه بعرض الآيات التي ترغب في ثواب عمله أو عقاب تركه مما جعل النفس السوية سريعة إلى الاستجابة له.
كما كان المسلون يؤدون في تلك اللقاءات الصلاة التي شرعها الله لهم بداية من بعثته صلى الله عليه وسلم .. .
ولم يمض وقت غير طويل حتى أقبل الناس ـ كما قال ابن إسحاق ـ يدخلون في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء ، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة , بل توافد أصحاب الفطرة السليمة ممن سمع به خارج مكة ليعلنوا إسلامهم مثل أبي ذر الغفاري ، وعمرو بن عبسة الذي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فقلت: من أنت؟ قال: نبيّ . قلت: وما النّبيّ؟ قال: رسول الله . قلت: الله أرسلك؟ قال: نعم، قلت بم أرسلك؟ قال: بأن تعبد الله ، وتكسر الأوثان ، وتوصل الأرحام، قلت: نعم ما أرسلت به.. فأسلمت وقلت: أتبعك ( ألزمك ) يا رسول الله، قال: لا ولكن الحق بقومك، فإذا أخبرت بأنّي قد خرجت ( أي انتشرت دعوتي) فاتبعني ، ثم أوصاه كما أوصى أبا ذر قبله أن ينقل رسالة الإسلام إلى قومه, وأن يتلطف في عرضها .
وبعد مرور ثلاث سنوات من بعثته أمره الله أن يوسع دائرة دعوته , وألا يكتفي بدعوة من يألفه فقط ، وأن يعلن للناس جميعا أنه مبعوث من عنده سبحانه وتعالى إليهم كافة , ويدعوهم للدخول في الإسلام , وينذر من خالف أمره بغضب الله وعذابه الأليم في الآخرة , ويبشر من أطاعه بالنعيم الدائم في جنة الله , وأن يبدأ بعشيرته وأقربائه , فقال تعالى :"وَأّنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المْؤْمِنِينَ "(8).
فاشتد عليه ذلك وضاق به ذرعا ؛ خشية من أن يكذبوه , وأن يواجههم بأمر لا يحبوه , يقول علي بن أبي طالب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" عرفت أنّي إن بادأت قومي رأيت منهم ما أكره، فصمتّ عليها، فجاءني جبريل فقال: يا محمد إنّك إن لم تفعل ما أمرك به ربّك عذّبك " وأنزل الله عليه " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ .. "(9).
فصنع طعاما ودعا إليه أفراد أسرته , وبعد أن طعموا خطب فيهم قائلا : "الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأومن به وأتوكل عليه ، وِأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إنّ الرائد لا يكذبه أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني لَرسولُ الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، واللهِ لَتمُوتُنَّ كما تنامون ، وَلتُبعثُنَّ كما تستيقظون، ولَتُحَاسَبُنَّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا , وبالسوء سوءا ، وإنها للجنة أبداً ، أو النار أبداً ، وأنتم أول من أنذر " (10) .
ثم أخبرهم بأن الله قد أمره أن يعلن دعوته على الملأ , فقال له عمه أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك! وأقبلنا لنصيحتك! فامض لما أمرت به، فو الله لا أزال أحوطك وأنفعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب , وقال له باقي أفراد أسرته كلاما لينا إلا أبا لهب .
ثم تكرر لقاؤه بهم حتى إذا أيقن بوقوفهم معه , وتعهد أبي طالب بحمايته ممن يريد به سوءا عند مواجهة الناس بأمره قام بتبليغ دعوته إلى سائر أهل مكة.
فصعد على جبل يسمى جبل "الصفا" ونادى: يا معشر قريش! فقال الناس بعضهم لبعض محمد على الصفا يهتف، فأقبلوا واجتمعوا, فقالوا : مالك يا محمد؟ قال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقوني؟ قالوا : نعم , أنت عندنا غير متهم , وما جربنا عليك كذبا قط, قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد, يا بني عبد المطلب! يا بني عبد مناف! يا بني زهرة ! حتى عدد الأفخاذ من قريش , إن اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين , وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا لا إله إلا اللّه (11).
ولم يكتف بهذه الصيحة العالية التي أعلمت أهل مكة بأنه رسول الله إليهم,وجعلت دينه الجديد موضوع حديث الناس ونقاشهم , وإنما دفعه حب الخير للناس ، وحرصه على هدايتهم إلى أن يأتي الناس في منازلهم ومجالسهم ونواديهم ومتاجرهم وأماكن عملهم ، ليلا ونهارا ، غير عابئ بما يلقاه من جهد ومشقة ، أو سخرية واستهزاء , وإنما انطلق يشرح لهم حقيقة الإسلام , ويبين ما عليه المشركون في عصره من ضلال في عبادة الأصنام والأوثان , فهي حجارة جامدة صنعوها بأيديهم هم , وأن العقل والمنطق لا يقر ما هم عليه , وأن العبادة ينبغي أن تكون لله الذي خلقهم .
وذلك بأسلوب سهل مقنع بعيد عن الجدال , فكان يجلس إلى النفر من الناس فيقول لهم : من خلقكم ؟ فيقولون الله , فيقول : من خلق السماوات والأرض والجبال ؟ فيقولون الله , فيقول من عمل الأصنام ؟ فيقولون : نحن , فيقول : فالخالق أحق بالعبادة أم المخلوق ؟ فانتم أحق أن يعبدوكم وأنتم عملتموها , والله أحق أن تعبدوه من شيء عملتموه , فانقسم الناس أمام دعوته
1ـ ما بين مصدق له مؤمن به بمجرد أن يلقاه ويسمع حديثه , حتى ورد أن أحد الأعراب ما إن سمعه يقول : " إن الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه "حتى أعلن إسلامه , وآخر يقول له : أستحلفك بالله ! آلله أرسلك وأمرك أن تبلغنا ؟ فلما قال : نعم , أعلن إسلامه , وهذا آخر يأتيه فيقول : يا محمد إلام تدعو ؟ قال : أدعوك إلى الله وحده لا شريك له , وأن محمدا عبده ورسوله , وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يضر ولا ينفع ولا يدري من عبده ممن لم يعبده ..."فاتبعه في الحال ، وصدق ما جاء به.
2ـ وما بين متردد يبحث عما يوصله إلى الله من خلال النقاش معه , وهؤلاء تولى القرآن الكريم الإجابة على استفساراتهم , وإزالة الشك من قلوبهم .
وذلك بلفت أنظارهم إلى التأمل في خلق الله , مثل قوله تعالى : " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(12) وقوله تعالى "قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ" (13)
وكان القرآن يلفت نظره صلى الله عليه وسلم أيضا إلى طريقة حوار الأنبياء السابقين مع أممهم ؛ ليسترشد بهم , مثل قوله تعالى : " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ .."(14).
3ـ وما بين جاهل بما جاء به صلى الله عليه وسلم من الحق متبعا أو مقلدا لغيره , ومع إن هذا الصنف يمثل الأغلبية من الناس , إلا أنهم كثيرا ما كانوا يقعون تحت تأثير الكبراء ، ويسيرون وراءهم في الإعراض عنه أو معاداته ؛ رغبا أو رهبا منهم, كعادة الناس في كل عصر , وقد نعى الله عليهم هذا الفعل , ونبههم إلى أنهم سيندمون على ذلك يوم القيامة , فقال تعالى :" يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً"(15).
4ـ وما بين مكابر معاند مصر على كفره وشركه, وهؤلاء تمثلوا في الملأ من قريش والسادة الذين حسبوا أن الدين الجديد سيحول بينهم وبين البغي والتعالي على الناس , والتجبر في الأرض , وأكل أموال الناس بالباطل , وهي العلة التي تجعل الملوك والكبراء يقفون في وجه الأنبياء والرسل وسائر المصلحين في كل حين , ويحرضون عليهم الجهلة من الناس , البعيدين عن معرفة الحقيقة.
فقد أنكروا عليه أن يصف الأصنام والأوثان وسائر الآلهة المزعومة التي يتسترون وراءها بما وصف , وأجمعوا خلافه , وذهبوا على عمه أبي طالب , وطلبوا منه أن يكفه عن دعوة الناس إلى الإسلام , وافتروا عليه ما لم يفعله أو يقله ، فقالوا: يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإمّا أن تكُفّه عنّا ، وإمّا أن تُخلّي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكَهُ (أي يقتلونه دونه ).
ومن العجب أن هؤلاء كانوا يعلمون أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن سبابا , ولا عيابا , ولا فحاشا , وكل ما فعله أنه كان يقرأ على الناس قوله تعالى :" وإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ"(16). ويبين ما هم عليه من ضلال , وأن الأصنام التي يعبدونها لا تستحق العبادة , ولم تطلب منهم ذلك , وإذا كان آباؤهم لم يجدوا من يرشدهم , فما عذرهم هم ؟ .
ولم يبال صلى الله عليه وسلم بإعراضهم , ومضى يظهر دين الله ، ويدعو إليه , وكان موسم الحج إلى بيت الله الحرام قد اقترب فخشي هؤلاء الملأ من المعاندين أن يلتقي صلى الله عليه وسلم بالحجاج ، ويعرفهم بدعوته فيقبلون عليها ، فاجتمع سادتهم وصاروا يبحثون عن تهمة يرمونه بها ، ويشيعونها بين الناس ؛ حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوسهم، فقال لهم رجل يسمى "الوليد بن المغيرة": أجمعوا فيه رأيـًا واحدًا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، قالوا: فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع! قالوا: نقول: كاهن, قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه.
قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه( يقصد أصناف الشعر العربي ) فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم.
قالوا: فما نقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة, وإن أصله لعَذَق، وإن فَرْعَه لجَنَاة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك (17) وتناسوا أنه كان يأمر أتباعه بالبر والإحسان إلى أقاربهم وإن أساءوا إليهم , ووصلهم وإن قاطعوهم .
المصدر : موقع التاريخ
الهوامش :
(1) لم يكن لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ذكور ، وإنما ماتوا جميعا في صغرهم .
(2) ابن سيد الناس : عيون الأثر ج1 ص178
(3) ابن إسحاق : السيرة النبوية صـ 120
(4) سورة " محمد " : آية 15
(5) سورة " الصافات " :الآيات من44 : 49
(6) سورة " الحاقة " : الآيات 25: 37
(7) سورة " المرسلات " : الآيات 32: 33
(8) سورة " " الشعراء " : الآيات 214 : 215
(9) سورة " المائدة " : الآية 67
(10) ابن كثير : البداية جـ 3 ص 38
(11) المصدر السابق جـ 3 ص 38
(12) سورة " العنكبوت " : الآية 20
(13) سورة " يونس " : الآية 101
(14) سورة " الشعراء " : الآيات 69 : 77
(15) سورة " الأحزاب " : الآيات 66 :68
(16) سورة " البقرة " : الآية 170
(17) ابن هشام : السيرة النبوية جـ 2 صـ 105