تأثرت الأوضاع الخارجية بشكل سلبي نتيجة لهبوط معدات التبادل التجاري عام 1994 بسبب انخفاض أسعار النفط ، و في عام 1995 بسبب ارتفاع تكاليف استراد الحبوب بينما انخفضت التدفقات المالية الخارجية بشكل ملموس .
ففي عام 1994 كانت التدفقات الرأسمالية الوافدة مازالت مرتفعة إلى حد كبير حيث بلغت 4,6 مليون دولار ، و قد سمحت هذه التدفقات بالإضافة إلى الدعم المقدم لميزان المدفوعات يتراكم الاحتياطات الرسمية إلى ما يعــادل ثلاثة أشهر مـن الواردات ، و انخفاض عبء خدمة الديون من 82 % من الصــادرات إلى 49 % ( شكل 13 ) و على العكس من ذلك في عام 1995 حدثت زيادة في الواردات خارج قطاع المحروقات عقب تطبيق التدابير الخاصة بتحرير الواردات ، و تعويض البلاد لموجة جفاف شديدة بالإضافة تحركات أسعار الصرف التي رفعت تكاليف خدمة الدين من حيث قيمتها بالدولار الأمريكي و أسهمت كل هذه التطورات في تدهور عجز الحساب الجاري إلى أكثر من 5 % من إجمالي الناتج المحلي و مع الإقلال من القروض الجديدة و بالرغم من دعم ميزان المدفوعات بمبلغ 06 ملايين دولار فقد هبطت الاحتياطات الرسمية بمقدار 530 مليون دولار و لكن هذه الاتجاهات طرأ عليها تغيير جذري في عامي 1996 و 1997 فبينما ارتفعت حصيلة صادرات المحروقات بقوة بعد أن قفزت أسعار النفط بمقدار 04 دولارات لتصبح 21,7 دولار في المتوسط للبرميل الواحد ، حدث انكماش في الواردات بعد إشباع الطلب المكبوت عليها و لانتهاء من إعادة تجديد المخزون و انتقل وضع الحساب الجاري إلى فائض بنسبة 2,7 % من إجمالي الناتج المحلي في عام 1996 و 7,3 % في عام 1997 و على الرقم من حدوث انخفاض أخر التدفقات الرأسمالية الوافدة إلى 1,8 مليون دولار ارتفعت في نهاية 1996 ، و 08 ملايين في نهاية عام 1997 .
و في سنة 1998 و بظهور الأزمة الأسيوية تراجع سعر البرميل من النفط الى مستوى 14,1 دولار في السداسي الأول من سنة 1998 مقابل 19,8 لنفس السداسي من السنة السابقة الأمر الذي انعكس على الايرادات من الصادرات النفطية يتراجعها بقيمة 3,5 مليار دولار . هذا الانخفاض في أسعار النفط أثر
شكل رقم 12 : التدفقات الجارية
شكل رقم13 الدين و خدمة الدين
بشكل كبير على التوازنات الكبرى لاقتصاد الجزائري ، و لقد استمر هذا الانخفاض في نهاية سنة 1998 و طوال سنة 1999 ، أن هذا الوضع ينعكس بدوره على القدرة التسديدية للاقتصاد الجزائري سواء تعلق الأمر بخدمات الدين الخارجي كونها مرتبطة بعوائد الصادرات أو بتسديد الواردات بل يمتد الأمر إلى استخدام الاحتياطي من العملات الأجنبية فالبرغم من انخفاض حجم المديونية الخارجية سنة 1998 إلى 30,5 مليار دولار بعدما كانت 32,2 مليار دولار سنة 1997 فان معدل خدمة الدين انتقل من 30,3 % سنة 1997 إلى 47,50 سنة 1998 ، و إذا كان هذا هو حال انخفاض أسعار النفط فان ارتفاعها بالمقابل يترك أثاره الإيجابية على التوازنات الخارجية للاقتصاد الجزائري كما هو الحال سنة 2000 التي عرفت ارتفاعا مفاجئا لأسعار البرميل من النفط أفرز حصيلة للصادرات في السداسي الأول من هذه السنة ما يقارب 20 مليار دولار و هي حصيلة كان بعيد تخفيضها خلال العام في السنوات السابقة ، حيث بلغ سعر البرميل سنة 2000 ، 28,50 دولار و هي نسبة مرتفعة مقارنة بالسنوات السابقة التي أدت إلى قفزة معتبرة لمخزون احتياطي الصرف الذي بلغ مستوى 11,9 مليار دولار مقارنة بسنة 1999 أين بلغ 4,58 مليار دولار بارتفاع حوالي 3 أضعاف في الوقت الذي سجل رصيد موجب للميزان الجاري ب 8,93 مليار دولار بارتفاع بنسبة 446,5 % مقارنة بسنة 1999 الذي قدر ب 0,02 مليار دولار ، و رصيد مرتفع كذلك للميزان التجاري ب 12,30 مليار دولار بزيادة تقدر ب 366,07 % أي بحوالي 4 أضعاف بنسبة لسنة 99 ، و نفس الشيء للرصيد الإجمالي حيث حقق فائض معتبر مقارنة بسنة 99 أين كان عاجزا ، و استمرت الوضعية الحسنة لميزان المدفوعات خلال سنة 2001 أين سجل رصيد موجب للميزان التجاري لكن بتدهور بنـسبة 21,86 % مقارنة بسنة 2000 و نفس الشيء بالنسبة للرصيد الإجمالي الذي حقق بدوره فائضا لكن بانخفاض بنسبة 18,22 % بالمقارنة مع سنة 2000 ، و هذا راجع لتراجع عائدات النفط أين بلغ سعر البرميل الواحد لــسنة 2001 ب 24,85 دولار ، و هذا كله لم يمنع من تعزيز احتياطات الصرف التي بلغت نهاية سنة 2001 ، 17,96 مليار دولار و 23,10 مليار دولار في نهاية ديسمبر2002 ، هذا ما يؤدي إلى تحسين الوضعية المالية الخارجية و تجنب إعادة جدولة للديون ، حيث أن الجزائر لم تعرف جدولة جديدة لديونها منذ سنة 1998 إلى حد الآن ، حيث قدرت إعادة الجدولة لسنة 1998 ب 0,52 مليار دولار بانخفاض يقدر بنسبة 76,57 % مقارنة بسنة 1997 ، هذا ما بين تحقيق توازنات مالية كبرى ( داخلية و خارجية ) ، و لأول مرة في تاريخ الجزائر تفوق احتياطات الصرف قيمة المديونية الخارجية حيث قدرت نهاية 2002 ب 20,50 مليار دولار أمريكي ، أي أن الجزائر تمتلك تغطية لوارداتها تفوق 24 شهر ، و لقد تعدت احتياطات الصرف سقف 23,00 مليار دولار .
و قد سجل تراجع مليار دولار في الرصيد الإجمالي لميزان المدفوعات أي 5,19 مليار دولار و الاحتفاظ بمستوى الفائض الجاري ب 5,4 مليار دولار سنة 2002 التراجع بنسبة 23,51 % عن سنة 2001 ، و يتراجع بنسبة 16,15 % في الميزان الإجمالي ، أين بلفت صادرات الجزائر في نهاية السداسي الثاني لسنة 2002 ب 18,7 مليار دولار ، و بلغت الواردات 11 مليار دولار ، أي فائض في الميزان التجاري ب 7,8 مليار دولار ، بتراجع عن مستوى سنة 2001 بنسبة 18,83 ، و يرجع هذا الانخفاض إلى تراجع مداخيل الصادرات المحروقات التي بلغت 18,1 مليار دولار مقابل 19,09 سنة 2002 ، و يرجع الارتفاع في مستوى الواردات إلى ارتفاع الواردات التجهيزية التي ارتفعت بنسبة 16,03 % عن سنة 2001 .
هذا التحسن في احتياطي الصرف من شأنه أن يجعل الجزائر في وضعية مربحة ، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع مؤسسات النقد الدولية و القدرة على نتفيذ لمشاريع التنمية مضيفا أن المؤسسات المالية الدولية ترى أن الجزائر خرجت من الوضع المزري الذي كانت عليه و تتعامل معها لأنه من المؤيدين لاصلاحات الاقتصادية .
المطلب الثاني : مشاكل التنبؤ بميزان المدفوعات الجزائري
الجزائر كغيرها من دول العالم الثالث تعرف تخلفا في انتاج المــعلومات الاقتصادية و ضعفا في المنظومة الاعلامية يتمثل في بطىء ترفق المعلومات من مؤسسة لأخرى ، فضلا عن عدم التحكم في أساليب معالجة المعلومات مما ينعكس على مصداقيتها الشيء الذي يجعل الأرقام المقدمة بعيدة عن الواقع ، و ذلك راجع لسببين هما :
-1هشاشة نظام المعلومات الاقتصادية الجزائرية و طبيعة نظام الحسابات القومية :
تتميز المعلومات في الجزائر بالكثير من النسبية و عدم الدفة مما يجعل السياسات المبنية تطرح الكثير من الاعتبارات المصداقية لأن هذه الأخيرة لا يمكن تحقيقها إلا إذا تأكد الأعوان الاقتـصاديون من أن السـلطات الاقتصادية لن تقوم بمراجعة تصرفاتها و تدابيرها في المدى المنطور حيث أن المعلومات في الجزائر تعاني من جوانب قصور عديدة أهمها :
-عدم القدرة على رصد التغيرات و التقلبات العشوائية التي تتعرض لها المقادير الاقتصادية بالنظر إلى المدة الزمنية الكبيرة التي يتم فيها إعادة البيانات .
إن نظام المحاسبة الوطنية الجزائرية الحالي غير قادر على إعداد الجداول الكلية في مدة تتجاوز أحيانا عشر سنوات ، فمنذ الاستقلال إلى اليوم لم يتم إلا اعادا ثلاثة جداول للمخرجات و المدخلات على سبيل المثال إعداد و لا جدول مالي واحد .
-عدم موافقة نظام الحسابات القومية الجزائري للأنظمة المحاسبية الدولية إذ أن الجزائر منذ عام 1975 تعتمد نظاما للحسابات القومية ذو طابع هجين يستدفي الكثير من مفاهيمه و مبادئه نظام المحاسبة للناتج المادي المرتكز على مفاهيم ماركسية تدعمها المنطلقات التنموية السائدة آنذاك التي تستخدم التخطيط المركزي إلا أن الجزائر شأنها في ذلك شأن الدول الانتقالية شرعت في التحول نحو اقتصاد السوق الحر . و هذا التحول يتطلب تغيير الأساليب الإدارية المــستخدمة في الإدارة المـركزية للاقتصاد و تكوين مؤسسات و آليات ذات طابع سوقي إلا أن الأمور قد لا تسير بسرعة مما يخلق بطء في التحول تظهر بعض معالمه فيما يلي :
- بقاء سيطرة القطاع العام على الإنتاج
- تخلف النظام المالي المصرفي و عمله بعيدا عن المعايير الدولية
- ضعف اندماج الاقتصاد الجزائري في الاقتصاد العالمي
و ربما لهذه الأسباب ظل مستمرا استخدام نظام الحسابات الاقتصادية القومية في بلورة الأحصائات رغم كونه لا يستجيب للمرحلة و لا لمتطلبات الهيئة الدولية التي تحتاج الى معلومات ترتكز على تدفقات الدخل و التدفقات المالية و تكون منسجمة مع المعايير الدولية المؤسسة في نظام المحاسبة القومية للأمم المتحدة الذي تمت مراجعته عام 1993 في إطار رؤية شاملة و متكاملة و متناسقة و على هذا أصدر صندوق النقد الدولي مجموعة من الأدلة أهمها :
- دليل ميزان المدفوعات 1993
- إحصاءات مالية لحكومة 1998
- دليل المحاسبة في ظل التضخم 1996
- الإحصاءات النقدية و المالية 1996
حيث أن بقاء نظام المحاسبة الوطنية الجزائري قائما لا يساعد على إعداد موازين المدفوعات وقف المفاهيم الدولية المعتمدة –
-2صعوبة إدراك المتغيرات المؤثرة في سلوك المؤسسات و حجم التأثير الخارجي على الاقتصاد الجزائري :
إن صياغة معادلات سلوكية ليست عملية سهلت ، فالأمر يتطلب القيم بدراسة شاملة لمختلف جوانب الاقتصاد الوطني على مدار عدد كبير من السنوات بالإضافة إلى أن اختيار النماذج الملائمة لطبـيعة الاقتصاد الجزائري و اختبارها يتــطلب عملا ذهنيا و تقنيا ليس دائما متاح و باعتبار ميزان المدفوعات مسجلا سجلا شاملا لمختلف التعاملات مع الخارج فانه يمكننا الإشارة إلى المشكلات التالية :
- مدى القدرة على إدخال قيود كمية التي كانت تفرض على الواردات التي تم التخلي عنها لصالح القيود التعريفية تماشيا مع الجات و المنظمة العالمية للتجارة
- صعوبة إدراك المتغير الأساسي الذي يتحكم في الحصيلة من النقد الأجنبي
- صعوبة تحديد القدرة التنافسية للاقتصاد الجزائري أخذا بعين الاعتبار الأسعار الداخلية مقارنة بالأسعار الخارجية لما لذلك من ارتباط بالدورات الاقتصادية في البلدان من جهة و بتحركات و تقلبات أسعار الصرف المعلومة من جهة أخرى
- صعوبة إدراك نصيب تأثير كل من سياسات العرض و سياسات الطلب على ميزان المدفوعات لما لهما من تداخل في النهاية مما يجعل سياسة التركيز على نوع من السياسات ، لما تظهر صعوبة في ادارة السياستين مع في آن واحد
- عدم اتساق البيانات بالنظر الى اختلاف مصادرها ليتعدى ذلك الى الحديث عن مصداقيتها و تحديد أي البييانات أولى لبالاعتبار بالاضافة الى وجود بيانات تحتاج الى تعديل قبل استخدامها في المعملات و الانماذج و هذا ما طرح مشكلات عند تقديم البيانات الرسمية أمام بعض الجهات كالبرلمان حيث كانت البيانات في كل مرة عرضة للطعن و التشكيك سواء بمناسبة عرض قانون المالية السنوي في ظل ات أخرى ، فوصل الأمر أحيانا إلى اختلاف بيانات نفس الدائرة المركزية الحكومية بمجرد تغيير المسؤول عنها . و إذا كان من البديهي أن الاقتصاديات اليوم مرتبطة فيما بينها لا بنظر إلى :
- التعاون الموجود بين الاقتصاديات في مجال تبادل المعلومات
- التقاطع الموجود بين الكثير من المتغيرات الاقتصادية التي تنمو بالتوازي في مختلف الاقتصادات في نفس الوقت
- التجانس في السـياسات الاقتصادية الذي أصبحت تفرضه الهيئات الدولية حتى و إن كان ذلك لا يعني أن الدول تتبع نفس السياسة في القدرة على تحديد حجم التأثير الذي تمارسه الظروف الدولية على المؤسسات الدولية أمر بالغ الصعوبة و التعقيد و هذا ما يترك ظلالة على التنبؤ بميزان المدفوعات .
إن الوضع الدولي بما يطرحه من مشكلات تجعل الدول دائما في وضعية مراجعة في توقعات النمو العالمي ، نتيجة الأزمات العشوائية غير المتوقعة ، ففي سنة تمت مراجعة توقعات النموذجي :
الدول السبع الصناعية من 2,5 % إلى 2 %
دول جنوب شرق أسيا من 6,2 % إلى 3,2 %
اليابان من 2,3 % إلى 1 %
و مثل هذه الأوضاع لها انعكاساتها على الاقتصاد الجزائري ، الا أن حجم هذه الانعكاسات يبقى صعب التقدير بالنظر الى ضعف اندماج الاقتصاد الجزائري في الاقتصاد العالمي ، و ضعف عوامل الجذب للمناخ الاستثماري الجزائري نتيجة انغلاق الجهاز المصرفي ، ضعف المواصلات و تأرجح الاصلاحات الاقتصادية .
المطلب الثالث : آفاق ميزان المدفوعات الجزائري في ظل المعطيات الاقتصادية الجديدة
ليس من المهم فقط أن نقف على وضعية ميزان المدفوعات ، و انما أيضا معرفة الأفاق المستقبلية له ، هذه الأخيرة تبقى مستحيلة ما لم يتم اعتبار بعض المتغيرات الأساسية في الاقتصاد المرتبطة أكثر بالاقتصاد العالمي ، و باتالي نحاول تحليل عنصرين هامين اللذين يمكن أن يؤثر على الوضع المستقبلي لميزان المدفوعات الجزائري .