قال تعالى : "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ً أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة".
يعجب الله سبحانه من أمر هؤلاء الناس ; الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ، ويستعجلونه وهم في مكة يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين ، حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله ، فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره الله ; وتهيأت الظروف المناسبة ، وكتب عليهم القتال في سبيل الله إذا فريق منهم شديد الجزع ، شديد الفزع ، حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم ـ وهم ناس من البشر ـ كخشية الله ; القهار الجبار الذي لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد ، أو أشد خشية .
وإذا هم يقولون في حسرة وخوف وجزع : ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ وهو سؤال غريب من مؤمن ، وهو دلالة على عدم وضوح تصوره لتكاليف هذا الدين ; ولوظيفة هذا الدين أيضا ، ويتبعون ذلك التساؤل بأمنية حسيرة مسكينة" لولا أخرتنا إلى أجل قريب "وأمهلتنا بعض الوقت قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف .
إن أشد الناس حماسة واندفاعا وتهورا قد يكونون هم أشد الناس جزعا وانهيارا وهزيمة عندما يجد الجد ، وتقع الواقعة ، بل إن هذه قد تكون القاعدة ، ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف ، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال ، قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة ; فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل ، دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار ، حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا ، وأشق مما تصوروا ، فكانوا أول الصف جزعا ونكولا وانهيارا ، على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم ، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ; ويعدون للأمر عدته ، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة ، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف ، فيصبرون ويتمهلون ، ويعدون للأمر عدته .
والمتهورون المندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافا ، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور ، وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا ; وأي الفريقين أبعد نظرا كذلك ، وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف الذي يلذعه ( يلسعه ) الأذى في مكة فلا يطيقه ; ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة ، فيندفع يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى أو حفظ الكرامة ، والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار والتربية والإعداد ، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب ، فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة ; ولم يعد هناك أذى ولا إذلال ، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص ; لم يعد يرى للقتال مبررا ; أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة " فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ".
وقد يكون هذا الفريق مؤمنا فعلا ، بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى ، وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا ، فالإيمان الذي لم ينضج بعد ; والتصور الذي لم تتضح معالمه ; ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض ، وأنها أكبر من حماية الأشخاص ، وحماية الأقوام ، وحماية الأوطان ، إذ إنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض ، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم ; وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ، ذات سلطان يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله ; ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض ، ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته بأي لون من ألوان الفتنة ، ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو ، وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه .
وإذن فلم يكن الأمن في المدينة حتى على فرض وجوده كاملا غير مهدد لينهي مهمة المسلمين هناك ; وينهى عن الجهاد الإيمان الذي لم ينضج بعد ؛ ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر ; والاستماع فقط إلى أمر الله ، واعتباره هو العلة والمعلول ، والسبب والمسبب ، والكلمة الأخيرة سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له ، والتصور الذي لم تتضح معالمه بعد ؛ ليعرف المؤمن مهمة هذا الدين في الأرض ، ومهمته هو المؤمن بوصفه قدرا من قدر الله ، ينفذ به الله ما يشاؤه في هذه الحياة ، لا جرم ينشأ عنه ، مثل هذا الموقف الذي يصوره السياق القرآني هذا التصوير ; ويعجب منه هذا التعجب ، وينفر منه هذا التنفير ، فأما لماذا لم يأذن الله للمسلمين في مكة بالانتصار من الظلم ; والرد على العدوان ; ودفع الأذى بالقوة ، وكثيرون منهم كان يملك هذا ; فلم يكن ضعيفا ولا مستضعفا ، ولم يكن عاجزا عن رد الصاع صاعين ، مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلة ..
أما حكمة هذا والأمر بالكف عن القتال ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والصبر والاحتمال، حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب ما لا يطاق ، وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته ; فيفتن عن دينه ، وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيموت تحت وطأته ، أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها ؛ لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة ; ونفرض على أوامره أسبابا وعللا قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية ، أو قد تكون ، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها ، ويعلم سبحانه أن فيها الخير والمصلحة ..
وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف ، أو أي حكم في شريعة الله لم يبين الله سببه محددا جازما حاسما ، فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف ; أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف ، مما يدركه عقله ويحسن فيه ، فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال ، ولا يجزم مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله بأن ما رآه هو حكمة ; هو الحكمة التي أرادها الله نصا ، وليس وراءها شيء ، وليس من دونها شيء ، فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله ، ومقتضى ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف في الطبيعة والحقيقة .
وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة ، نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب على أنه مجرد احتمال ، وندع ما وراءه لله ، لا نفرض على أمره أسبابا وعللا لا يعلمها إلا هو ، ولم يحددها هو لنا ، ويطلعنا عليها بنص صريح ، إنها أسباب اجتهادية تخطئ وتصيب ، وتنقص وتزيد ، ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان ، ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ; في بيئة معينة ، لقوم معينين ، وسط ظروف معينة .
ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه ، أو على من يلوذون به ؛ ليخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته ، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محورا لحياة في نظره ، ودافع الحركة في حياته وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ; فلا يندفع لأول مؤثر كما هي طبيعته ، ولا يهتاج لأول مهيج ؛ ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته .
وتربيته على أن يتبع مجتمعا منظما له قيادة ، يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ; ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره ، مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته ، وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي لإنشاء المجتمع المسلم الخاضع لقيادة موجهة ; المترقي المتحضر غير الهمجي أو القبلي ، وربما كان ذلك أيضا لأن الدعوة السلمية أشد أثرا وأنفذ في مثل بيئة قريش ; ذات العنجهية والشرف ; والتي قد يدفعها القتال معها في مثل هذه الفترة إلى زيادة العناد ، وإلى نشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة التي أثارت حرب داحس والغبراء وحرب البسوس أعواما طويلة ، تفانت فيها قبائل برمتها .
وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام ، فلا تهدأ بعد ذلك أبدا ، ويتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية وهو في مبدئه ، فلا تذكر أبدا ، وربما كان ذلك أيضا اجتنابا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت ، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم ، إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد يعذبونه هم ويفتنونه و يؤدبونه .
ومعنى الإذن بالقتال في مثل هذه البيئة أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت ، ثم يقال هذا هو الإسلام ، ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ، فقد كانت دعاية قريش في الموسم في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمدا يفرق بين الوالد وولده ; فوق تفريقه لقومه وعشيرته ، فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي في كل بيت ، وكل محلة ، وربما كان ذلك أيضا لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ويعذبونهم ويؤذونهم ; هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص ، بل من قادته ، ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء .
وربما كان ذلك أيضا لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ولا يتراجع ، وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم ، وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة ، فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر وهو رجل كريم يهاجر ويخرج من مكة ، ورأى في ذلك عارا على العرب ، وعرض عليه جواره وحمايته ، وآخر هذه الظواهرنقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبى طالب ، بعدما طال عليهم الجوع ، واشتدت المحنة ..
بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة ; وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي ، وربما كان ذلك أيضا لقلة عدد المسلمين حينذاك وانحصارهم في مكة ، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة أو بلغت أخبارها متناثرة ; حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف ، ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة ، حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم ، ويبقى الشرك ، وتنمحي الجماعة المسلمة ، ولم يقم في الأرض للإسلام نظام ، ولا وجد له كيان واقعي ، وهو دين جاء ليكون منهج حياة ، وليكون نظاما واقعيا عمليا للحياة ..
في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة لتجاوز هذه الاعتبارات كلها ، والأمر بالقتال ودفع الأذى ؛ لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائما وقتها ، ومحققا هذا الأمر الأساسي وهو وجود الدعوة ، وجودها في شخص الداعية صلى الله عليه وسلم وشخصه في حماية سيوف بني هاشم ، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع ، والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم إذا هي امتدت يدها إلى محمد صلى الله عليه وسلم ..
فكان شخص الداعية من ثم محميا حماية كافية ، وكان الداعية يبلغ دعوته إذن في حماية سيوف بني هاشم ، ومقتضيات النظام القبلي ، ولا يكتمها ولا يخفيها ، ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها في ندوات قريش في الكعبة ، ومن فوق جبل الصفا ; وفي اجتماعات عامة ، ولا يجرؤ أحد على سد فمه ; ولا يجرؤ أحد على خطفة وسجنه أو قتله ، ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاما بعينه يقوله ; يعلن فيه بعض حقيقة دينه ; ويسكت عن بعضها ..
وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف ، وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت ، وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا ، أي أن يجاملهم فيجاملوه ; بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته لم يدهن ، وعلى الجملة كان للدعوة وجودها الكامل في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، محروسا بسيوف بني هاشم ، وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان ، وفي كل صورة ، ومن ثم لم تكن هنالك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة ، والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها مساندة للدعوة ، ومساعدة في مثل هذه البيئة .
هذه الاعتبارات كلها فيما نحسب كانت بعض ما اقتضت حكمة الله معه أن يأمر المسلمين بكف أيديهم ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ؛ لتتم تربيتهم وإعدادهم ، ولينتفع بكل إمكانيات الخطة في هذه البيئة ; وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة في الوقت المناسب ، وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها ، فلا يكون لذواتهم فيها حظ ، لتكون خالصة لله وفي سبيل الله ، والدعوة لها وجودها ، وهي قائمة ومؤداة ومحمية ومحروسة ..
وأيا ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة ، فقد كان هناك المتحمسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال ، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ، وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ، لولا أخرتنا إلى أجل قريب ..
وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشئ فيه حالة من الخلخلة ، وينشئ فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع وبين الرجال المؤمنين ذوي القلوب الثابتة المطمئنة المستقبلة لتكاليف الجهاد ، على كل ما فيها من مشقة بالطمأنينة والثقة والعزم والحماسة أيضا ، ولكن في موضعها المناسب ، فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقية ، أما الحماسة قبل الأمر فقد تكون مجرد اندفاع وتهور ; يتبخر عند مواجهة الخطر ..
وكان القرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الرباني " قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة "إنهم يخشون الموت ، ويريدون الحياة ، ويتمنون في حسرة مسكينة لو كان الله قد أمهلهم بعض الوقت ; ومد لهم شيئا في المتاع بالحياة ..
والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها ; ويجلو غبش التصور لحقيقة الموت والأجل " قل متاع الدنيا قليل " متاع الدنيا كله ، والدنيا كلها ، فما بال أيام أو أسابيع أو شهور أو سنين ؟! ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا ؟ ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام أو أسابيع أو شهور أو سنين ؟ ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، فالدنيا أولا ليست نهاية المطاف ، ولا نهاية الرحلة ، إنها مرحلة ووراءها الآخرة ، والمتاع فيها هو المتاع ، فضلا على أن المتاع فيها طويل كثير ، فهي خير ، خير لمن اتقى ..
وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها ، التقوى لله فهو الذي يُتقى ، وهو الذي يُخشى وليس الناس ، الناس الذين سبق أن قال : إنهميخشونهم كخشية الله أو أشد خشية ، والذي يتقي الله لا يتقي الناس ، والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحدا ، فماذا يملك له إذا كان الله لا يريد ، ولا تظلمون فتيلا ، فلا غبن ، ولا ضير ، ولا بخس ; إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا فهناك الآخرة ، وهناك الجزاء الأوفى ; الذي لا يبقى معه ظلم ..
ولا بخس في الحساب الختامي للدنيا والآخرة جميعا ، ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه مع هذا كله إلى أيام تطول به في هذه الأرض ، حتى وهو يؤمن بالآخرة ، وهو ينتظر جزاءها الخير ، وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانية التي كانت فيها هذه الطائفة ، هنا تجيء اللمسة الأخرى ، اللمسة التي تصحح التصور عن حقيقة الموت والحياة والأجل والقدر ; وعلاقة هذا كله بتكليف القتال الذي جزعوا له هذا الجزع ، وخشوا الناس فيه هذه الخشية "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " .
فالموت حتم في موعده المقدر ، ولا علاقة له بالحرب والسلم ، ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته ، ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذن ; ولا هذا التكليف ، والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعدههذا أمر وذاك أمر ; ولا علاقة بينهما إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل ، بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد ، وليست هنالك علاقة أخرى ، ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال ، ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال ..
وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآني كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر ; وكل ما ينشئه التصور المضطرب من خوف ومن ذعر ، إنه ليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته ، وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبه ووقاية ، فقد سبق أن أمرهم الله بأخذ الحذر ، وفي مواضع أخرى أمرهم بالاحتياط في صلاة الخوف ، وفي سور أخرى أمرهم باستكمال العدة والأهبة ..
ولكن هذا كله شيء وتعليق الموت والأجل به شيء آخر ، إن أخذ الحذر واستكمال العدة أمر يجب أن يطاع ، وله حكمته الظاهرة والخفية ، ووراءه تدبير الله ، وإن التصور الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب رغم كل استعداد واحتياط أمر آخر يجب أن يطاع ; وله حكمته الظاهرة والخفية ووراءه تدبير الله ، توازن واعتدال وإلمام بجميع الأطراف ، وتناسق بين جميع الأطراف ..
هذا هو الإسلام ، وهذا هو منهج التربية الإسلامي للأفراد والجماعات.
المصدر : في ظلال القرآن