رواد الفكر الاقتصادي الاسلامي.. ابن خلدون (7)
نظرية القيمة: انطلاقاً من مفهوم ابن خلدون السابق للعمل يصل إلى نتيجة مفادها إن العمل أساسي لإعاشة الإفراد وتكوين رؤوس الأموال ووصل به الأمر إلى اعتبار العمل المصدر الحقيقي للقيمة «إن المنتجات والسلع هي نتاج العمل الإنساني فالمنافع (القيمة الاستعمالية) أصلها ومصدرها العمل. ان المفادات والمكتسبات (السلع والمنتجات) كلها أو أكثرها إنما هي قيمة الإعمال الإنسانية المقدمة».
وهنا يوضح ابن خلدون مرة أخرى إن العمل الإنساني يتجسد في قيم استعماليه (منافع) لسد الحاجات البشرية والتي تتفق والطبيعة الإنسانية، ولكن بعض المنافع وان كانت ضرورية وتسد حاجة إنسانية إلا أنها قد لا تكون من نتاج عمل الإنسان كالهواء والماء والشمس.. الخ.
وبالطبع قد طورت هذه الفكرة من قبل المدرسة الكلاسيكية الاقتصادية وإضافاتها عند التفريق بين القيم الاستعمالية الناجمة عن العمل وبين القيم الاستعمالية الناشئة من فعل الطبيعة إن المدرسة الكلاسيكية الجديدة (الحرية) فقد صنفت السلع الناشئة من الطبيعة بالسلع الحرة.
إن أرسطو الذي يعده البعض مؤسس علم الاقتصاد يرى إن للسلعة قيمتين: قيمة استعماليه تقدر بمقدار المنافع الممكن الحصول عليها نتيجة لاقتناء تلك السلعة. والمنفعة هنا مقياس شخصي وذاتي. وقيمة تبادلية تقدر بمقدار السلع الممكن مبادلتها بالسوق بتلك السلعة. إن أرسطو يقف عند هذا الحد ولم يقطع شوطاً ابعد في تحليله للقيمة. إنما ابن خلدون يتساءل ما إذا كانت الأشياء المتبادلة مختلفة عن بعضها كقيم استعماليه وهي الشكل الغالب في التبادل فما هو الأساس أو الخاصية الكامنة في الأشياء التي تجعلها قابلة للقياس والتي على أساسها تنسب الأشياء بعضها البعض؟
إن ابن خلدون ـ في رأينا ـ استطاع ولأول مرة في التاريخ إن يفسر القيمة تفسيراً ابعد بكثير من أرسطو، ويقدم مقياساً مشتركاً وموضوعياً بين جميع السلع المنتجة من اجل معادلتها عند التبادل. ويرى في ذلك كمية العمل المبذولة في إنتاج كل سلعة او بضاعة، وتصبح المبادلة ممكنة بين بضاعتين عند تعادل كميتي العمل المبذولة في السلعة أو المجسدة فيها.
ومع تقدم درجة العمران واتساع النشاط الاقتصادي للدولة المتحضرة تزداد السلع التي يرغب الإفراد بمبادلتها في الداخل او الخارج وقد اشار ابن خلدون في مقدمته (فصل الحجرين المعدنيين ـ أي الذهب والفضة) ورأى ان الذهب والفضة هي قيمة كل متمول. وبهذا يكون قد اقترب من مفهوم السعر هو التعبير النقدي للقيمة.
وحيث ان السعر لا يظهر إلا في الاقتصاد المكسبي (الذي غرضه الكسب والربح) والاقتصاد الطبيعي هو القائم على المقايضة هو اقتصاد بسيط ولابد ان يتحول النوع الثاني إلى الأول. لذلك يكون ابن خلدون قد سبق السير ويليام بيتي في تحديد مفهوم القيمة والسعر باكثر من ثلاثة فروق والكلاسيك والاشتراكيين بحوالي خمسة قرون.
نظريته في الريع: من ادق ملاحظة ابن خلدون في نفقات الانتاج الزراعي، هو ان بعض الدول اذا ما اضطرت لزراعة اراض غير خصبة لسبب زيادة الطلب على المواد الغذائية، فإن هذه الاراضي تتطلب نفقات انتاج اكثر من الاراضي الخصبة ونفقات الانتاج هذه تصبح شيئاً مهماً لان المنتجين (الزراع) يدخلوها في اثمان المنتجات الزراعية. ان نفقات الانتاج العالية في الاراضي غير الخصبة تعني بالضرورة ان الاراضي الخصبة تحقق عائداً اعلى وبالتالي تحقق ريعاً اكبر. ولم يقف ابن خلدون عند الريع الناجم عن فرق الخصوبة في انواع الاراضي المختلفة بل يتعداه إلى الريع الناشيء عن الموقع وعن التطور الاجتماعي. لقد لاحظ ابن خلدون عند وجود دولة محدودة النشاط الاقتصادي فإن ثمن الاراضي والعقارات تكون منخفضة الثمن بسبب نقص الطلب على المواد الزراعية ولكن عندما يزداد النشاط الاقتصادي وتقوى الدولة ويزداد عدد السكان. كل ذلك يؤدي إلى زيادة الطلب الكلي.
وهنا يرى ابن خلدون انه «تنتظم للبلد احوال رائعة حقه يحصل معها الضبطة في العقار والضياع لكثرة منافقها فتعظم قيمتها ويك لها اهمية وخطر لم يكن لها في البداية. فالفرق بين ثمن العقارات في البداية عند رخصها وثمنها عند زيادة العمران هو ما يعرف اليوم باسم الريع.. ان هذا التحليل بهذا الاسلوب العلمي الرصين، يكون به ابن خلدون قد سبق ريكاردو وهنري جورج في نظرية الريع ـ حسب رأينا ـ التي تنسب لهما اليوم. ويتريث على ذلك من تحليل ابن خلدون لمسألة الريع الحقائق التالية.
اولاً: ان الريع حصل بسبب السعر وليس هو جزءاً منه كما يشار اليه في بعض النظريات الحديثة.
ثانياً ـ ان الريع قد نشأ بفعل عوامل اجتماعية (زيادة العمران والسكان والتقدم). وليس ففعل الانسان. ولذلك وجدنا من يطالب حتى في الدول الرأسمالية المعاصرة بوضع ضرائب عالية على هذا الريع لدرجة تصل إلى ما يشبه المصادرة.
ثالثاً ـ ان الريع لا يتماشى مع قانون تناغم المصالح بين الفئات والتراكيب الاجتماعية المختلفة، بل العكس فإن مصلحة فئة او وظيفة في المجتمع تكون قد تكونت بفعله (الريع) على حساب فئة او طبقة اخرى في المجتمع. وهذه الحقائق هي التي نراها اليوم في التحليل الاقتصادي لنظرية الريع.
لا شك ان نظريتي القيمة والريع من النظريات الاقتصادية الهامة اليوم في الاقتصاد الحديث. ان لم تكن اهمها على الاطلاق، وعندما يتصدى ابن خلدون ولهذا العمق لاحظ نظريتين اقتصاديتين.. فإنه يكون برأينا قد فاق عصره وما بعد عصره بكثير. ولذلك لاغرابة في الحديث عن مدرسة فكرية اقتصادية خلدونية، شأنها شأن اية مدرسة فكرية حديثة. ان لم تكن تفوقها ولكن للاسف فإن دراسات جدية من الجانب العربي والاسلامي لم تظهر بعد الكشف عن هذه الحقيقة.
بقلم: أ.د. محمد عارف كيالي _ استاذ اقتصاد جامعي
نظرية القيمة وفائض القيمة
إن مكتسبات الحضارة هي، في التحليل الأخير، رهن بتزايد إنتاجية العمل. فما دام إنتاج فئة من الناس يكفي بالكاد لاستمرار حياة المنتجين، وما دام ليس ثمة فائض يفوق هذا الناتج الضروري، فليس ثمة إمكان لتقسيم العمل، أي لظهور الحرفيين والفنانين أو العلماء. ومن باب أولى، فليس ثمة إمكان لنمو تقنيات تتطلب مثل هذا التخصص.
فائض الناتج الاجتماعي
وما دامت إنتاجية العمل بهذه الدرجة من الانخفاض بحيث لا يكفي ناتج عمل الإنسان إلاّ لاستمراره في الحياة، لا يبقى ثمة مجال للتقسيم الاجتماعي، ولا لوجود التمايز داخل المجتمع. فالناس جميعا منتجون، وهم جميعا في سوية واحدة من الإملاق.
إن أي نمو في إنتاجية العمل يفوق هذا المستوى الأدنى يخلق إمكانية ظهور فائض صغير، وما أن يوجد فائض من المنتجات، وما أن ينتج ذراعان أكثر مما يتطلبه استمرار وجود صاحبها، حتى يمكن أن يظهر إمكان الصراع من أجل توزيع هذا الفائض.
وبدءا من هذه اللحظة لا يعود مجموع العمل في الجماعة عملا موجها بالضرورة وحصرا لضمان استمرار المنتجين. إن جزءا من هذا العمل يمكن أن يوجه إلى تحرير جزء آخر من المجتمع من ضرورة العمل ليحافظ على استمراره.
وعندما يتحقق هذا الإمكان يمكن لجزء من المجتمع أن يكوّن طبقة مسيطرة، تتصف بأنها متحررة من ضرورة العمل لتحافظ على استمرارها.
ومنذ ذلك الحين يمكن رد عمل المنتجين إلى جزئين، جزء من هذا العمل يتم كالسابق ليحافظ المنتجون على استمرارهم، ونطلق عليه العمل الضروري، ويستخدم الجزء الآخر من العمل لتأمين استمرار الطبقة الحاكمة، فنسميه فائض العمل.
لنأخذ مثلا جليا واضحا، وهو الرق في المزارع، سواء في بعض المناطق وبعض العصور في الإمبراطورية الرومانية، أم في المزارع الكبيرة، اعتبارا من القرن السابع عشر، في جزر الهند الغربية أو في الجزر البرتغالية الإفريقية. وبوجه الإجمال، فإن المالك، في جميع المناطق الاستوائية، لا يقدم حتى الغذاء للرقيق، فعلى هذا الأخير أن ينتج غذاءه بنفسه، يوم الأحد، بالعمل في قطعة صغيرة من الأرض، تخصص منتجاتها لتغذيته. ويعمل الرقيق ستة أيام في الأسبوع في المزرعة، وهذا عمل لا ترتد ثماره إليه، عملا يخلق فائض إنتاج اجتماعي، يتخلى عنه الرقيق بمجرد تكونه، ويستأثر به حصرا سادة الرقيق.
إن أسبوع العمل، وهو في هذه الحالة من سبعة أيام، ينقسم إذن إلى جزئين: عمل يوم واحد، يوم الأحد، هو عمل ضروري، عمل ينتج الرقيق أثناءه المنتجات التي يستلزمها استمرار بقائه، ليبقى حيا هو وعائلته، وعمل خلال ستة أيام في الأسبوع، هو فائض عمل، عمل ترتد ثماره حصرا إلى السادة، ويستخدم لإعالة السادة وتأمين استمرار بقائهم، ولاغنائهم أيضا.
ومثل آخر، نستمده من الملكيات والاقطاعات الكبيرة في مطلع القرون الوسطى. إن أراضي هذه الاقطاعات كانت تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: فهناك الأراضي المشاعة، أي الأراضي التي بقيت ملكيتها جماعية، كالغابات والمروج والمستنقعات وسواها. وهناك الأراضي التي يعمل فيها القن لإعالة أسرته وذاته. وهناك أخيرا الأرض التي يعمل فيها القن لإعالة السيد الإقطاعي. ويتكون أسبوع العمل في هذه الحالة من ستة أيام لا سبعة، ينقسم إلى جزئين متساويين: فيعمل القن ثلاثة أيام في الأسبوع في الأرض التي يمتلك ثمارها، ويعمل ثلاثة أيام في الأسبوع في أرض السيد الإقطاعي، بدون أي مقابل، أي أنه يقدم عملا مجانيا للطبقة المسيطرة.
وفي وسعنا أن ندل على ناتج كل من نوعي العمل هذين الشديدي التباين باصطلاحين مختلفين. إن المنتج عندما يقوم بالعمل الضروري، إنما ينتج الناتج الضروري، وعندما يقوم بفائض عمل إنما ينتج فائض إنتاج اجتماعي.
ففائض الناتج الاجتماعي هو إذن جزء من الناتج الاجتماعي، تستحوذ عليه الطبقة المسيطرة، رغم كونه نتاج طبقة المنتجين، بأي شكل كان، سواء بشكل محاصيل طبيعية، أو بشكل سلع معدة للبيع، أو بشكل مال.
إذن، ففائض القيمة ليس إلاّ الشكل النقدي لفائض الناتج الاجتماعي. وعندما تتملك الطبقة المسيطرة جزءا من إنتاج المجتمع، أطلقنا عليه من قبل اسم "فائض الناتج"، بشكل مال حصرا، فإن الحديث لا ينصرف آنذاك إلى فائض الناتج، بل يطلق على هذا الجزء "فائض القيمة".
ليس هذا في الواقع إلاّ تعريفا أوليا لفائض القيمة سنعود إليه فيما بعد.
ما هو أصل فائض الناتج الاجتماعي؟ إن فائض الناتج الاجتماعي يبدوا كحصيلة لتملك الطبقة المسيطرة جزءا من إنتاج الطبقة المنتجة مجانا - فهو إذن تملك دون أي مقابل في القيمة. إن الرقيق حين يعمل يومين في الأسبوع في مزرعة سادته، ويحتكر هذا المالك كل حصيلة هذا العمل دون أن يكون ثمة أية مكافئة مقابل ذلك، فإن أصل فائض الناتج الاجتماعي إنما يكون العمل المجاني، أي العمل بدون مقابل، الذي يقدمه الرقيق لمالكيه. وحين يعمل القن ثلاثة أيام في الأسبوع في أرض السيد، فإن أصل هذا الدخل، فائض الناتج الاجتماعي هذا، إنما يكون أيضا عملا بدون أجر، عملا مجانيا يقدمه القن.
وسنرى فيما بعد أن أصل فائض القيمة الرأسمالي، أي دخل الطبقة البرجوازية في المجتمع الرأسمالي، هو من المنشأ ذاته تماما: إنه العمل غير المكافأ، العمل المجاني، العمل الذي يقدمه الكادح، المأجور، إلى الرأسمالي دون مقابل.
السلع، قيمة الاستعمال وقيمة التبادل
هذه التعريفات الأساسية التي أوردناها هي أدوات سنستخدمها في الدروس الثلاثة التي تتكون منها مجموعة هذه المحاضرات.
إن كل ثمرة العمل البشري ينبغي أن تقترن عادة بمنفعة، أي أن تكون قادرة على إشباع حاجة بشرية. ويمكن القول إذن إن لكل ثمرة من ثمار العمل الإنساني قيمة استعمال. على أن اصطلاح "قيمة الاستعمال" سيستخدم بمدلولين مختلفين. فنتحدث عن قيمة استعمال سلعة ما، كما سنتحدث عن قيم استعمال، فنقول إن في هذا المجتمع أو ذاك لا تنتج إلاّ قيم استعمال، أي منتجات معدة للاستهلاك المباشر من قبل الذين يتملكونها (من منتجين أو طبقة حاكمة).
بيد أن ثمرة العمل البشري يمكن أن يكون لها، فضلا عن قيمة الاستعمال هذه، قيمة أخرى، قيمة تبادل، إذ يمكن أن تُنتج لا بقصد الاستهلاك الفوري من قبل المنتجين أو الطبقات المالكة، بل بقصد التبادل في السوق، بقصد البيع. ولا تكوّن كتلة المنتجات المعدة للبيع إنتاجا له قيم استعمال وحسب، بل إنتاجا لسلع.
فالسلعة هي إذن ناتج لم يخلق بهدف استهلاكه مباشرة، بل ،هدف تبادله في السوق. وكل سلعة ينبغي بالتالي أن يكون لها قيمة استعمال وقيمة تبادل في آن واحد.
يبقى أن يكون لها قيمة استعمال، إذ لو لم يتوافر لها ذلك، لما وجد شخص يشتريها، إذ لا تشترى سلعة إلاّ بقصد استهلاكها في النهاية، بقصد إشباع حاجة ما عن طريق هذا الشراء. وإذا وجدت سلعة ما ليس لها قيمة استعمال بالنسبة لأي شخص كان فمعنى ذلك أنها غير قابلة للبيع. لقد أنتجت عبثا، وليس لها قيمة في التبادل بالذات لأنها غير ذات قيمة في الاستعمال.
وبالمقابل، ليس لكل سلعة، ذات قيمة استعمال، قيمة في التبادل. وهي لا تملك قيمة في التبادل أصلا إلاّ بقدر ما تكون منتجة في مجتمع يقوم على التبادل، في مجتمع يمارس التبادل عموما.
هل توجد مجتمعات ليس للمنتجات فيها قيمة تبادل؟ إن قيمة التبادل تقوم، كما تقوم من باب أولى التجارة والسوق، على توافر مستوى معين من تقسيم العمل. ولكي لا تستهلك المنتجات فورا من قبل منتجيها، ينبغي ألاّ ينتج كل الناس الشيء ذاته. ومن الجلي الواضح أنه لا مبرر لظهور التبادل في جماعة معينة لا وجود لتقسيم العمل فيها، أو أن تقسيم العمل فيها بدائي تماما. وفي الأحوال العادية فإن منتج القمح لا يجد ما يبادله مع منتج آخر للقمح، ولكن ما أن يوجد تقسيم العمل، ما أن يوجد اتصال بين فئات اجتماعية تنتج منتجات ذات قيم استعمال مختلفة، حتى يمكن التبادل أن يقوم بصورة عرضية أولا، ويمكن من ثم أن يعمّ. عند ذلك تبدأ في الظهور، شيئا فشيئا، إلى جانب المنتجات المعدة للإستهلاك فقط، منتجات أخرى تنتج بقصد تبادلها، أي سلع.
وفي المجتمع الرأسمالي، بلغ الإنتاج التجاري، أي إنتاج قيم التبادل، ذروة انتشاره. إنه أول مجتمع في تاريخ البشر يتكون الجزء الأكبر من إنتاجه من سلع. ولو أنه لا يمكن القول إن كل الإنتاج في هذا المجتمع هو إنتاج سلع. إذ ثمة فئتان من المنتجات ما تزالان موجودتان فيه ولهما قيمة استعمال وحسب.
أولهما كل ما ينتجه الفلاحون من أجل استهلاكهم الذاتي، كل ما يستهلك مباشرة في المزارع التي تنتج هذه المنتجات. وهذا الإنتاج بقصد الاستهلاك الذاتي موجود حتى في أكثر البلاد الرأسمالية تقدما كالولايات المتحدة، بيد أنه لا يكوّن إلاّ جزءا صغيرا من مجموع الإنتاج الزراعي. وبصورة عامة، بقدر ما تكون الزراعة في بلد ما متأخرة بقدر ما يكون أكبر جزء من الإنتاج الزراعي هو الجزء المعد للاستهلاك الذاتي، مما يثير صعوبات كبيرة عند حساب الدخل القومي لهذه البلاد بدقة.
والفئة الثانية من المنتجات التي ما تزال ذات قيمة استعمال وحسب، وليست سلعة في النظام الرأسمالي، هي كل ما ينتج داخل المنازل. وهذا الإنتاج المنزلي كله، رغم ما يقتضيه من إنفاق كبير في عمل الإنسان، يكون إنتاجا لقيم استعمال، لا إنتاجا لقيم تبادل. إن المرء ينتج حين يعد الحساء أو يثبت أزرارا، إلاّ أنه لا ينتج ذلك من أجل السوق.
إن ظهور إنتاج السلع وتنظيمه وتعميمه قد غيّر بصورة جذرية الطريقة التي يعمل بها البشر وينظمون بها المجتمع.