الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. وبعد ..
فقد عشنا في الحلقة السابقة في صحبة نبي الله هود ـ عليه السلام ـ ورأينا كيف انتهى الحال بالعصاة من قومه " عاد " التي لم يخلق مثلها في البلاد في قوتها وجبروتها ، حيث أرسل الله سبحانه وتعالى عليهم الريح التي ألقتهم جثثا هامدة في الشوارع والطرقات والمنازل ، كانت تبدو من ضخامتها كأنها أعجاز النخيل ، وبقيت مساكنهم وعمائرهم آية لمن خلفهم ، ولمن تسول لهم أنفسهم أن يغتروا بقوتهم وعتادهم كما اغتر هؤلاء ، واليوم بمشيئة الله سبحانه وتعالى نعيش مع نبي الله صالح ـ عليه السلام ـ الذي بُعِث إلى قومه ثمود الذين كانوا يسكنون بمنطقة الحِجر الممتدة من المدينة المنورة حتى منطقة الرملة بفلسطين ..
ولم تكن المسافة الزمنية ولا المكانية بينهما ( أي بين عاد وثمود ) بعيدة ، ولكن إغواء الشيطان الذي امتلأ قلبه وذريته بالحقد على الإنسان والكيد له ؛ ثم اغترار الإنسان بما يؤتاه من قوة ، جعل قوم ثمود لا يتعظون بما حل بأسلافهم من قوم عاد ، وصاروا يتأملون في بيوتهم المنحوتة في الجبال وهي في غايةٍ الحسن والمتانة والعظمة ؛ فيحسبون أنهم أوتوا ما لم يؤته أحد من قبلهم ، وأنه لا قوة في الكون ممكن أن تنال منهم وهم يقطنون تلك الحصون ، فكفروا وطغوا وبغوا ونسوا ما حل بـ "عاد " التي كانت أشد منهم قوة ..
فبعث الله عز وجل إليهم صالحا ـ عليه السلام ـ لينبههم ويرشدهم ويحذرهم من مغبة ما هم عليه من كفر ونكران ، فجاء إليهم ونادهم بالنداء الذي نادى به كل الأنبياء قومهم وقال : " يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ " [الأعراف : 73]..
ثم ذكرهم ـ عليه السلام ـ بنعم الله التي تستوجب عليهم أن يعبدوه وحده فقال :" هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ " [هود : 61] ..
ويبدو أنه ـ عليه السلام ـ كسائر الأنبياء قضى الجزء الأول من حياته قبل مبعثه مستقيما بعيدا عن الرذائل ؛ محبا للفضائل ؛ مساعدا للمحتاجين ؛ صادقا في تعامله معهم ؛ لا يقصر في إسداء الرأي والنصح لهم ، ولكنه لم يتعرض لسلوكياتهم ومعتقداتهم التي تغضب الله سبحانه وتعالى بنقد ، فرضوا بذلك منه ، ولم يعاتبه أحد من قومه على ذلك ، فلما أمر بتبليغ رسالة ربه ، وبدأ يأمر بالخير وينهى عن الشر ، رأى فيه أصحاب المصالح والشهوات والنزوات ( وهم المهيمنون على الأمور دائما ) خطرا عليهم فقالوا له : " يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا " [هود : 62].. وهذه شهادة له تشبه شهادة أهل مكة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له : "ما جربنا عليك كذبا" ..
ولكي يجدوا لأنفسهم ذريعة في عدم اتباعه رغم أنه كان مرجوا فيهم قبل ذلك قالوا : " أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا (62) [هود : 62]..
إنه نفس الخطاب الذي استخدمه كل المجادلين مع أنبيائهم بداية من نوح وانتهاء بمحمد ـ صلى الله عليهم جميعا ـ وهو نفس الخطاب الذي يجابه به المعارضون الدعاة والمصلحين الآن ، مع تغير فقط في المفردات مثل : الخروج على الشرعية الدولية ، مجاوزة القانون ، قلب نظام الحكم ، وغيرها مما يُردد كل حين ..
وكان رد صالح ـ عليه السلام ـ أنه لا يفعل ذلك من تلقاء نفسه ، ولا يدعوهم إلى الخير إلا امتثالا لأمر الله عز وجل الذي كلفه بأداء رسالة هو أمين في تبليغها ، فقال : "إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ " [الشعراء : 143 - 144]..
وكما ذكرنا من قبل أن أول شيء يثيره المعاندون لدعوة الله سبحانه وتعالى هو موضوع المكاسب التي يهدف إلى تحقيقها الرسول من وراء دعوتهم ، وأنه يبغي ... ويبغي ..فيجيء الرد الحاسم عليهم : " وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء : 145] فهو وكل نبي قبله يقضون الليل والنهار في دعوتهم ، تاركين أعمالهم ومشاغلهم ، بل مضحين بأموالهم وبكل ما يملكون في سبيلها من أجل الله عز وجل ، وشفقة وحبا في قومهم ..
والإنسان غالبا ما يلجأ إلى الجحود والنكران إذا اغتنى وكثر ماله وجاهه ، وأحس أنه لا يحتاج لأحد أو يخافه ، وهكذا كان حال قوم ثمود فذكرهم صالح ـ عليه السلام ـ بأن هذا الغنى الذي يعيشون فيه ، والرفاهية التي ينعمون بها ، لن تدوم معهم ، وإن دامت فلن يخلدوا لها ، ولابد أن تنزع منهم أو يُقبضوا هم ويتركونها ، فقال لهم : " أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ " [الشعراء : 146 - 148] هذا لن يكون لهم ، وإلا فليتفكروا في حال عاد قبلهم وما حل بهم .
ولكنهم أبوا أن يصدقوه وقالوا له : " إِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ " [هود : 62] مع إن مساكن عاد التي لم تسكن بعدهم بادية للعيان ، وأخبارهم معروفة لديهم ؛ لا تحتاج لمن يقصها على مسامعهم ..
وكأني بهم بعد أنا ردوا عليه بهذا التشكيك ذهب فريق منهم إليه في صورة الناصح ؛ ليذكره بحاله قبل أن يقوم بدعوة الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأنه كان مقبولا لدى الجميع لم يعتب عليه أحد في شيء ، وأنه ينبغي أن يعود إلى ما كان عليه ويترك دعوته ورسالته ، ويترك الناس وشأنهم ، وينشغل هو بنفسه ، وهو كلام قد يسمعه الكثيرون ممن يعملون في مجال الدعوة إلى الله في البلاد التي تحاد الله ورسوله ، فجاء رده ـ عليه السلام عليهم ـ " يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ " [هود : 63] أي بترك دعوته وتبليغ رسالته ؛ لأن ترك الدعوة إلى الله من أكبر المعاصي ، ثم رد على هؤلاء الذين يظهرون في صورة الناصحين له الخائفين عليه بقوله : " فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ " [هود : 63]..
ولما كان أقرب الناس إليهم زمانا ومكانا كما قلنا هم قوم عاد فقد ذكرهم بمصيرهم وقال : " وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ "[الأعراف : 74] فواجهوه بمثل ما واجه به السابقون أنبياءهم ، حيث كفر أكثرهم ، ولم يؤمن معه إلا قلة لم تكن تملك من المال والمتاع والجاه ما يجعلها تنشغل في التفكير في مآلها بعد الموت ، وصاروا ملازمين له متبعين لهديه ؛ لكن الغالبية الكافرة المشركة لم تتركهم وشأنهم ، وإنما صاروا يحتكون بهم ، ويضيقون عليهم ، ويشككونهم في صدق ما يدعوهم إليه نبي الله صالح ـ عليه السلام ـ كما قال الله عز وجل في قرآنه الكريم : " قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ "[الأعراف : 74]..
وكان هؤلاء المستضعفون المؤمنون أكثرا أدبا مع نبيهم ، فلم يقولوا لهم : نعم إنا نعلم أنه مرسل من ربه ، وإنما قَالُوا : "إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ " [الأعراف : 75]..
أي أنهم لم يؤمنوا بكونه رسولا من الله عز وجل فقط ، وإنما هم مؤمنون مصدقون بكل ما يقوله لهم ويعدهم به ، فمن الممكن أن نجد في دنيا البشر من يقولون : إنهم مؤمنون بالله وبرسوله ، ولكن إذا ما طُلب منهم الالتزام بما جاء به الرسول من عند ربه من أوامر ونواهي أعرضوا ، وهم صنف مريض رخو من البشر لا تبدو فيهم صلابة المؤمن في إيمانه ، ولا قساوة الكافر في كفره ، ولذلك قال عنهم المولى عز وجل : " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة : 8 - 10]..
المهم أن قوم ثمود لما رءوا الصلابة في إيمان من اتبع صالحا ـ عليه السلام ـ قالوا لهم : " إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ" [الأعراف : 76] كأنهم يعاقبونهم بتلك الفعلة ..
ثم اتجهوا إلى صالح ـ عليه السلام ـ وأخذوا يرمونه بالكذب تارة ، وبالسحر أخرى ، فقالوا له : " إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ " [الشعراء : 153] ويلِجّون في جداله ويقولون : " مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا " [الشعراء : 154] أي ليس لك من الفضل ما يستوجب الطاعة لك ..
وهذا الجدال كان أكثره نابعا من المسرفين الطغاة المفسدين المستبدين منهم الذين يرون في إيمان عوام الناس ضياعا لمجدهم ، ولذا التفت صالح عليه السلام إلى العوام من قومه وقال : " وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ [الشعراء : 151 - 152]..
ولكنه لم يجد لهم آذانا صاغية ، وقد وقعوا تحت سيطرة سادتهم ، وأراد الجميع أن يعجزوه فقالوا : " فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ " [الشعراء : 154] .. فأتاهم الله بما طلبوا ، وأخرج لهم من بين الصخور الصماء ناقة ، وشاهدت أعينهم منظر خروجها المذهل ، والصخرة تتفتق لتخرج من بينها ، كما جاء على لسانه ـ عليه السلام ـ حيث قال : " هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " [الأعراف : 73] ..
ثم جعل الله لهم في درها اللبن الوفير الذي يأخذ منه كل واحد حاجته دون أن ينضب ، فقال عز وجل على لسان صالح عليه السلام : " هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ " [الشعراء : 155] ..
وكان هود ـ عليه السلام ـ كما جاء في الآية السابقة قد وزع مياه البئر بينهم وبينها ، بحيث يخلونه لها يوما ؛ كي لا تنفر منهم ومن دوابهم ، ويجعلون لهم يوما يأخذون منها ما يشاءون لهم ولدوابهم ، وسائر أنعامهم ..
والنعمة التي أعطاها الله لهم في مقابل ذلك أن الماء الذي كانت تشربه كان يتحول كله بقدرة الخالق عز وجل إلى لبن في درها ، فتطوف على منازلهم ؛ فيحلب كل واحد منها ما يشاء حتى يستكفوا جميعا ..
وأي نعم أسبغ من أن يحول الله عز وجل لهم الماء إلى لبن من خلال تلك الآية ، ثم توصله لهم إلى مداخل منازلهم ، دون أن تكلفهم عناء المجيء إلى مرقدها ؟!!!..
ولكن ـ ويا للعجب ـ أصر الطغاة على أن يتخلصوا منها لا لشيء إلا ليمنعوا الناس من التفكر في قدرة الله وعظمته ( كلما رأوها )فترق قلوبهم للإيمان به ، ولا لشيء إلا ليمنعوا فضل صالح ـ عليه السلام ـ على المعدومين والفقراء منهم ..
وتحدث بعضهم إلى بعض في هذا الأمر ( أمر التخلص منها ) حتى شاع الخبر ووصل لصالح ـ عليه السلام ـ فحذرهم من مغبة ذلك ، والعاقبة التي تحل بهم من الله عز وجل لو أقدموا على مثل هذا الفعل الشنيع ، وقال لهم : " وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ " [الشعراء : 156]..
فأظهروا عدم مبالاتهم بما توعدهم به ، وتحدوه أن يأتيهم بعذاب الله ، فرد عليهم عليه السلام بقوله : " يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [النمل : 46]..
ولكنهم لم يلتفتوا لقوله ، وإن ظلوا هيابين للأمر حتى خرج شرهم وأشقاهم فترصد بها حتى نحرها ، يقول الله عز وجل : " إذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا " [الشمس : 13 ، 14]
والإنسان غالبا ما يقدم على معصيته بتهور وتحت دفع وتحريض من الشيطان دون أن يتفكر في جزاء تلك المعصية ، وبعدها يندم ولا ينفع الندم ، وهذا ما حصل من قوم ثمود ، يقول الله تعالى : " فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ " [الشعراء : 157 ، 158] ..
ولطالما تفكرت في حال المستبدين الذين تآمروا على المشاريع الخيرية وجمعيات العون والمساعدة التي كان يقدمها العاملون للإسلام ؛ حتى لا ينتشر خيرهم على البرية فيتبعوا دعوتهم ، ويؤمنون لهم ، وحال الطغاة من قوم صالح عليه السلام الذين تخلصوا من الناقة التي كانت تدر لهم هذا الحليب دون مقابل فعجبت من التشابه بينهم رغم بعد الزمان .
ولم يبق شيء بعد اعتدائهم على آية الله سبحانه وتعالى غير أنه تحل عليهم نقمته ، ولذلك قال لهم صالح عليه السلام : " تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ " أي وبعدها سيأتيكم موعود الله الذي استعجلتم به ..
وكانت تلك فرصة لهم ليراجعوا أنفسهم ويرجعوا لرشدهم قبل أن تنتهي المهلة المحددة لهم ، خاصة وأنهم يعلمون أن صالحا ـ عليه السلام ـ صادق في كل ما يحدث بهم ، ولكن ـ للأسف ـ استمرءوا المعصية ، وصاروا يحتكون به ـ عليه السلام ـ ومن آمن معه ، والصراع يشتد بينهم يوما بعد يوم ، ومن سنة الله سبحانه وتعالى أنه عندما يشتد الصراع بين الأنبياء وقومهم أو بين المصلحين وشعوبهم تكثر الكوارث ويحل البلاء ، كمؤشر على قرب مجيء الهلاك الأكبر ، وبدلا من أن يتوبوا لربهم يتهمون أنبياءهم بأنهم السبب فيما حل بهم ، وينظرون إليهم نظرة تشاؤم ، وقد فعل ذلك قوم ثمود عندما قالوا لصالح ـ عليه السلام ـ ومن آمن معه : " اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ " أي تشاءمنا بك وبهم ، فرد عليهم صالح ـ عليه السلام ـ بقوله : " طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ " [النمل : 47]أي تختبرون به..
وبدلا من أن يسعوا لرفع البلاء الذي حل بهم ، ويصطلحون مع صالح ـ عليه السلام ـ ويتبعونه قبل أن تنتهي مدتهم كما قلت من قبل ظلوا على عصيانهم ، وتركوا شيطانهم يدبرون لقتله ، يقول عز وجل : " وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ " [النمل : 48 ، 49]
ودبروا أمرهم وهم لا يخافون رب صالح وإنما يخافون من قومه ، ويا لتعاستهم : إنه من الممكن لهم أن ينجو من عقاب أهل صالح ـ عليه السلام ـ أو وليه بالقسم لهم أنهم ما ارتكبوا الجريمة ولا يعرفوا عنها شيئا ، فكيف برب صالح الذي تكفل بحفظه ورعايته وحمايته ؟!!
وفي تعبير جميل يقارن الله عز وجل بين تدبيرهم لقتله وبين حمايته المتوفرة لصالح ـ عليه السلام ـ فيقول " وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ " [النمل : 50 ، 51]...
هم دبروا ورتبوا وأعدوا أسلحتهم وهذا مكرهم والله عز وجل لم يدبر لهم سوى أنه أرسل عليهم رجفة أو صيحة من السماء صاروا بعد سماعها جاثمين في الأرض ..
ووجه إليهم صالح ـ عليه السلام ـ آخر عتابه لهم قبيل فنائهم بقوله : " يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف : 79] إنه لم يقصر في تبليغهم رسالة ربه ، ولا في نصحه لهم ، فليحموا جزاء إعراضهم ..
وكما أبقى الله سبحانه وتعالى منازل عاد آية لمن بعدهم ، كذلك فعل مع ديار ثمود ، يقول عز وجل : " فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " [النمل : 52] فهل من متعظ ؟!!..
ولفظة خاوية تشير إلى أنها لن تسكن ولن تعمر بعدهم أبدا ، إذا صارت ملوثة موبوءة ، لا يصلح للحياة ماؤها ولا هواؤها ؛ حتى إن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لما مر بتلك المنازل في طريقه إلى غزوة تبوك أمر ألا يدخل عليها أحد من أصحابه ، وألا يقربوا ماءها ، ولما بلغه صلى الله عليه وسلم أن بعض الناس أخذوا من مياه بعض الآبار حول المكان وعجنوا به طعامهم نهاهم أن يأكلوا منه ، وأن يريقوا القدور التي وضعوا فيها ماء للطبخ ، لحكمة علمها صلى الله عليه وسلم ، ربما كانت ارتفاع الأشعة المضرة بتلك المنطقة ؛ وكان من كمال حرصه على صحة أصحابه أنه نهاهم عن التعمق داخل منازلهم قائلا : "إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم " مسند أحمد بن حنبل - (2 / 117)..
والصيحة أو الرجفة التي حلت بهم كانت كفيلة بان تقضي على كل مظاهر الحياة ولكن الله سبحانه وتعالى كما أبقى من آمن مع هود في أمن وأمان من هول الريح الصرصر العاتية كذلك فعل بمن آمن معه صالح ، يقول عز وجل :" وأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل : 53]..
وقدرة الله سبحانه وتعالى تتجلى للمؤمن في كل شيء ، لكنها تكون أكثر تجليا في حفاظه على عباده المؤمنين سالمين آمين وسط الهلاك المدمر الذي يصب على الكافرين حولهم ، وهذا ما يجعلنا نتحرك على الأرض ونحن مطمئنون وكلنا ثقة به لا نخشى من تقلبات الدهر ولا عواقب الأمور ما دمنا موحدين له ..
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله إن كان في العمر بقية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مدير موقع التاريخ الالكتروني
المصدر : موقع التاريخ