الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. وبعد ..
فقد عشنا في الحلقة السابقة في صحبة نبي الله نوح ـ عليه السلام ـ ورأينا كيف أنه ظل يدعو قومه إلى الله سبحانه وتعالى قرابة عشرة قرون ، وهو صابر محتسب على كل ما يلقاه منهم من عناد وسخرية واستهزاء وتهديد ، وكيف انتهى الأمر بإغراقهم وتطهير الأرض منهم ومن أرجاسهم ؛ حتى عادت محرابا للمؤمنين معه كما كانت عند بداية خلق الإنسان عليها ..
وقُبِض نوح ـ عليه السلام ـ بعد أن أدى رسالته ، وترك الأرض عامرة بذريته وذرية من حمل معه في السفينة ، يعيشون في أرجائها ، ويأكلون من أرزاقها ، ويذكرون ربهم بالغدو والآصال ، ثم تباعد الزمن ، وتتابعت الذراري ، ومرة أخرى صار الشيطان يمارس عادته في إغوائهم ، وعام بعد عام وشهر بعد شهر ويوم بعد يوم بدأت ثمار إغوائه الخبيثة تظهر بين الناس ، وفي غفلة من المصلحين وتساهل من المربين ؛ حتى غدا الحال على ظهر الأرض شبيه بالحال التي سبقت مبعث نوح عليه السلام ، وظهر من الطغاة المفسدين جيل فاق في طغيانه جيل نوح عليه السلام ، وتمثل في قوم "عاد" الذين كانوا يسكنون في أرض "الأحقاف" جنوب شبه الجزيرة العربية، وفي شمال حضرموت.
وزاد من طغيان هذا الجيل ما أوتيه من قوة ، وما أفاض الله به عليه من نعم ، وما شيده من مبان عظام ، تلك المباني التي فاقت في عظمة تشييدها ما أقامه السابقون لهم ، وما سيقيمه اللاحقون بهم ، حتى قال عنها المولى سبحانه وتعالى : " الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ " [الفجر : 8] ..
وصاروا يرددون : " مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً " [فصلت : 15] " وهو المعنى الذي طالما ردده الجبابرة على مر العصور ..
وبعد أن وصلوا إلى تلك الحالة بعث الله عز وجل إليهم هودا ـ عليه السلام ـ ليعيد من بقي في قلبه بقية من خير إلى الجادة ، أما من تحجر قلبه ، فتقام عليه الحجة ثم تحق عليه سنة الله سبحانه وتعالى ، فجاءهم بهذا النداء الرقيق اللطيف : " يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ " [الأعراف : 65] وهو النداء الذي نادى به كل نبي قومه..
ومع إنه نداء تنسجم معه أصحاب الفطر السليمة إلا أنهم قابلوه بالعناد والنكران واختلاق الأعاذير، ورموه بالتهم التي يُرمى بها كل نبي أو رسول أو داع أو مصلح ، فكان رده الطبيعي لذلك هو قوله : " إنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ " [هود : 50]..
وكما ذكرنا في اللقاء السابق أن كل تفكير المعاندين والعصاة يدور حول المال والأمور المادية ، وأنهم يحسبون أن النبي أو الرسول يهدف من دعوته التكسب أو على الأقل يمكن إسكاته بالإغراء المالي ، ولذلك أسرع هود ـ وكما فعل نوح ـ عليهما معا السلام ـ من قبل بقطع هذا الطريق عليهم ، وقال في معرض حديثه لهم : " يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي " [هود : 51] ..
وكان عليهم أن يتفكروا بعد هذا الرد في الأمر الذي جعله ينشغل بدعوتهم وإصلاحهم صباح مساء ، ويضحي بوقته وجهده الذي كان يمكن أن يكسب به المال الوفير في مجتمع طغت عليه المادة ، وأن يعلموا أنه كان يطلب من وراء دعوتهم ما عند الله عز وجل ، وأنه كان يَكِنّ لهم في قلبه حبا وشفقة وعطفا جعله يكد ويتعب لهدايتهم وإسعادهم ، ولكن ذلك لم يصدر منهم ، ولذلك قال لهم متهكما : " أفَلَا تَعْقِلُونَ " ..
وربما تصور قوم هود كما يتصور غيرهم أن في اتباعه مضيعة لعظمتهم وجاههم ، ولذلك حرص هود عليه السلام على أن يؤكد لهم خطأ هذا الظن ، وأعلمهم أن إيمانهم بالله سيكون فيه الخير لهم في الدنيا قبل الآخرة ، وسيضاعف لهم الرزق ، فقال " وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ " [هود : 52]..
وقد يعجب الماديون أو العلمانيون من الربط بين الاستغفار وبين سعة الرزق والقوة ، ولا يدرون أن الاستغفار سبب في رضا الله سبحانه وتعالى الذي يتبعه هطول الأمطار لتحيا به الأرض الجرداء ، كما أن الاستغفار يجلب للنفس البشرية الطمأنينة والسكون وراحة البال ، فإذا ما آوت إلى فراشها نامت النوم العميق الذي يجلب لها القوة عند يقظتها ، فتعاود نشاطها وهمتها ، أما عدم الاستغفار فيجعل الإنسان قلقا مضطربا ، قلما يستطيع أن يأخذ حظه من النوم إن آوى إلى فراشه في ليله، فيصبح مرهقا متعبا ..
وهذه الأمور التي صارت من بدهيات العلم الحديث ربما كانت غائبة عن قوم هود ، فقالوا له : " يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ " .. فأتاهم ـ بوحي من الله ـ بالأدلة المقنعة على صدق ما قاله، ولكن تحجر عقولهم أبت عليهم أن يسمعوا له ، ويتعرفوا على أدلته ، وقالوا : "وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ " أي لن يصدقوا بتلك البراهين ، وأكدوا ذلك بقولهم : " وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ "...
وهذه الردود المتوالية التي تؤكد أنهم لن يفكروا في اتباعه لم تجعله ـ عليه السلام ـ يكف عن دعوتهم في كل ناد يقابل فيه جمعهم ، لأنه كلف بدعوتهم من الله سبحانه وتعالى ، ولا يمكن أن يكف عن تلك الدعوة إلا بأمر منه عز وجل ؛ مما جعلهم يلجئون إلى السخرية والاستهزاء به ورميه بالجنون ، وأن هذا الجنون أصابه بسبب تجرؤه على آلهتهم فقالوا : " إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ " وقد فسر هذا الاتهام في آية أخرى وهي قول الله عز وجل : " ..إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ " [الأعراف : 66]..
وكان قصدهم من رميه بتلك التهمة أن يفت ذلك في عضده ، وتتزعزع نفسه من الداخل ، ولكن كان هذا محال معه ، وقد أعده الله سبحانه وتعالى ـ كما أعد سائر المرسلين ـ لمواجهة تلك المواقف ، ولذلك لم نره يُثار أو يُستفز عندما رموه بتلك التهمة ، وإنما بقي على حلمه ، ودافع عن نفسه بتؤدة قائلا :"يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف 67]..
وبعض الدعاة إذا توالت عليهم التهم الكاذبة انشغلوا بتفنيدها ، وتركوا عملهم ودعوتهم ، وجعلوا همهم فقط هو دفع التهم عن أنفسهم ، وبعضهم لا يبالون بما يثار عنهم ، ويتركون الشبهات تدور حولهم ؛ حتى يساء ظن الناس بهم ، ولكن هودا ـ عليه السلام ـ قام بنفي تهمة الجنون عنه ، كما رأينا في قوله : " يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. ثم واصل دعوتهم إلى الله فقال : " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ " ..[الأعراف : 68]
وأريد أن أشير هنا إلى أن كفر قوم عاد لم يكن يعني أنهم ينكرون وجود الله سبحانه وتعالى ، وإنما كان كفر جحود واستكبار على عبادته ، وإصرار على التجبر في الأرض والبطش والطغيان ؛ بدليل أنهم كانوا على معرفة تامة بما حدث لقوم نوح ـ عليه السلام ـ قبلهم ، وقد ذكرهم هود بذلك في قوله : " وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف : 68 ، 69] ..
كما أنهم كانوا على علم تام بوجود الملائكة المقربين ، واتخذوا معرفتهم طريقا للتحدي ، كما جاء في قول الله سبحانه وتعالى على لسانهم : " إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت : 14]..
وهذا يرشدنا إلى أن الطغاة البغاة الذين يسعون في الأرض فسادا ويزعمون إنهم يعرفون الله لا حظ لهم في الإيمان ، ولن يغني عنهم إقرارهم بوجود الله شيئا ما داموا لم يؤمنوا بآياته ويتبعوا أوامره ويلتزموا بأحكامه..
ثم توالت لقاءات هود ـ عليه السلام ـ بقومه وهو يدعوهم إلى ربهم ويقول : " إني لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ " [الشعراء : 107 - 109]
وأنوه هنا أيضا إلى أن هودا ـ عليه السلام ـ قد ركز في دعوته لقومه على محاربة المعاصي والآثام التي كانت متفشية فيهم ؛ تماما كالطبيب الذي يركز مع مريضه على معالجة المرض الذي ألم به فقط ، وهو ملم بكل الأمراض وعالجها ..
فلقد وقف ـ عليه السلام ـ يناقش قومه في أمر التعالي في البنيان الذي انشغلوا به عن الدار الآخرة فقال : " أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ ( قصورا ) لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ " .. [الشعراء : 128 ، 129]..
كما ناقش معهم قضية التجبر في الأرض والبطش بالضعفاء بعد أن نسوا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ، وقادر على الانتصار للضعفاء منهم ، وعلى سلب نعمة القوة والغنى والرفاهية التي وهبها لهم ، فقال : " وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ " [الشعراء : 130 - 134]..
وانتقل أمر قوم عاد بعد ذلك من طور الجدال والنقاش مع هود ـ عليه السلام ـ إلى طور التهديد الذي يلجأ إليه كل المعاندين على مر التاريخ ، وهو الأمر الذي يكون إيذانا بقرب حلول غضب الله عليهم ، فأعلنوا على الملأ تهديهم بقتله إن لم يكف عن دعوتهم ، ولكنه ـ عليه السلام ـ لم يعبأ بذلك ، وقال لهم متحديا : " فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ " وهو المعنى الذي ردده نوح ـ عليه السلام ـ من قبل حين وضُع في مثل موقفه ، حيث قال : " فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ " ..
ولم ينس ـ عليه السلام ـ أن يبين لهم السبب الذي من أجله هو غير عابئ بهم وبتهديداتهم وبجمعهم ؛ حتى لا يضطرب المؤمنون حوله ، فقال : " إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " .. [هود : 56]..
هو متوكل على الله ، والله بيده نواصي العباد ، وبالتالي لن يصل لمن توكل عليه أي مكروه ، وفي نفس الوقت لن يستطيع أحد من هؤلاء ـ وهم جميعا ـ ناصيتهم بأمر الله عز وجل أن يفعلوا شيئا دون إرادته ..
استقر هذا المعنى في ذهن هود ـ عليه السلام ـ ويجب أن يستقر في ذهن كل داع إذا ما جوبه بمثل هذا التهديد ، وهذا المعنى ينبغي أن يرسخ أيضا في قلب كل مسلم متمسك بحبل الله ، وليعلم أنه إذا كان التهديد الذي صدر من عاد التي لم يُخلق مثلها في البلاد لم يؤثر في هود عليه السلام ، فكذلك كل تهديد يصدر عن غيرهم لن يضره في شيء مهما كانت قوة من يصدر عنه هذه التهديد إلا أن يشاء الله .
وبعد ذلك لم يقف ـ عليه السلام ـ طويلا عند أمر تهديهم لهم ، ولم ينشغل به ، وإنما كل ما شغله هو التفكير في مصيرهم إن بقوا على ضلالتهم ، حيث سيحل عليهم لا محالة سنة الله التي وعد بها العصاة ، وعليهم بعد ذلك أن يتحملوا نتيجة عنادهم ، فقال : " فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57).. [هود : 57]..
وإنه حتى هذا اللحظة ما زال يخاف عليهم ، فهم أهله وقومه ، فقال : " إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ " [الشعراء : 135] ..
ولكن بعد هذا المشوار الدعوي الطويل معهم : " قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ " [الشعراء : 136 ، 138]..
ولا عجب أن يخرج من أفواههم هذا الرد ، فالنفس البشرية التي خلقها الله من طين إذا خالطها الشيطان المخلوق من نار كانت كقطعة الطوب النيء ( اللبنة ) إذا وضعت في النار صارت غير صالحة للإنبات ولا حتى لتشرب بالماء .
ومن شدة إغراء الشيطان لهم صاروا يُدفعون وتحت ضغط الغيظ منهم على تحديه بأن يطلب من ربه أن يحل بهم العذاب الذي وعدهم به إن هم لم يؤمنوا به فقالوا : " فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ".. [الأحقاف : 22]..
وهو كنبي مرسل مكلف فقط بأن يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى لا أن يطلب من الله أن يحل عليهم غضبه ؛ ولذا قال لهم : " إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ " [الأحقاف : 23]..
ولكن رده هذا لم ينفِ معرفته بالمآل الذي ينتظرهم ، ففي آية سورة الأعراف أنهم " قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فرد عليهم بقوله : " قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [الأعراف : 70 ، 71]..
ولم يطل هذا الانتظار الذي وعدهم به ، فما هي إلا أوقات معدودة حتى جاءهم وعد الله ، وإذا كان الناس قد تعارفوا على أن القوي يجابه بمثل قوته ، إلا أن إرادة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن يُباد هؤلاء بأضعف جنود الأرض ، فلم يسلط الله عليهم سوى ريح يلمسها الناس في معاشهم دون أن يجدوا لها خطرا ، وكل ما حصل هو مضاعفة سرعة تلك الريح لتخرج عن السنن الطبيعية ، يقول الله عز وجل : " وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [فصلت : 14 - 16]...
ولما كان هؤلاء كما قلنا من قبل تقوم حياتهم على المقاييس المادية ، فقد احتقروا هذا السلاح الذي سيبادون به أولا عند مشاهدته ، وقالوا لهود ـ عليه السلام ـ الذي كان يتوعدهم : "هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا " يعني ليس فيه العذاب كما تتهددنا ، فكان رده عليهم : " بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ " [الأحقاف : 24]...
ومن لا يقابل نعمة الله التي تستوجب الشكر بالجحود والنكران لا بد أن يأتي عليه يوم ويقلب له الله سبحانه وتعالى تلك النعمة فيجعلها نقمة ، وهذا واضح للعيان في تلك الرياح التي اعتاد الناس أن يروا فيها المطر والخير ، إذ صارت " تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا " [الأحقاف : 25]..
ورغم أن هذا الوصف للريح كفيل ببث الرعب في قلوب من يسمع به إلا أن الله سبحانه وتعالى قدم لها أكثر من وصف ، وفي سور متعددة ؛ لتتحقق الغاية من ذكره ، ففي سورة أخرى : " مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ " [الذاريات : 42] وفي سورة ثالثة : " وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة : 6 - 8] وفي سورة رابعة : " إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر : 18 - 21]..
وقد جعلت تلك الريح من هؤلاء الذين كانوا يقولون : "من أشد منا قوة" جثثا ملقاة على الطرقات تبدو على عظمتها كجزوع النخيل بعد اجتثاثها ، يقول الله عز وجل : " فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ "[الحاقة : 7 ] ..
وهو منظر يوحي بعظم أجسادهم وقوتهم من جانب ، ومن جانب أخرى مدى ما لحق بهم ؛ ليقارن القارئ للآية الكريمة بين الحالتين ويتعظ منهما ..
وكم يزداد إيمان الإنسان بربه عندما يرى أنه في وسط هذا الهول الذي حل بمجيء تلك الريح السموم بقي هود ـ عليه السلام ـ ومن معه هادئين سالمين ، لم يمسهم أي كرب أو مكروه ، يقول الله عز وجل : "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ " [هود : 58]..
وهذه الريح التي أتت على قوم عاد كلهم ، وتركت أجسادهم متناثرة في الطرقات والمنازل والمفاوز كانت كفيلة أن تدمر بنيانهم وتقتلع قصورهم ؛ ولكن الله سبحانه وتعالى أبقى منازلهم وما شيدوه كما هي لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى ، قد تكون من أجل أن تبقى ذكرى أمام مشاهد من تسول لهم أنفسهم التفاخر بقوتهم وعظمتهم ، ومن لا يعتبر فمصيرهم في انتظاره ، يقول الله سبحانه وتعالى : " فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ " [الأحقاف : 25]..
ولذلك جاء الخطاب لأهل مكة الذين كانوا لا يزالون على طغيانهم : " وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ " [الأحقاف : 26]..
ولو كان هذا الهلاك الذي لحق بهم هو عقاب طغيانهم لكفى ، ولكنه مقدمة لعذاب الهوان الدائم في الآخرة ، يقول الله سبحانه وتعالى : " وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ (60) [هود : 60]..
وبقي أن نقول في الختام : إن المنطقة التي كانوا يقطننها هؤلاء الجبابرة من قوم عاد صارت خرابا إلى الآن ، لا أنيس فيها ولا ديار ، ولا يرى فيها غير الرمال القاحلة، وهي المسماة بالربع الخالي ؛ لتكون شاهدة على مدى ما يحدثه شؤم المعصية ليس على من ارتكبوها فقط ، وإنما على الطبيعة من حولهم ، وعلى على البيئة التي كانوا يعيشون فيها ..
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة لنعيش في صحبة نبي آخر إن كان في العمر بقية ..
ـــــــــــــــــــــــــ
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
المصدر : موقع التاريخ (عند النقل ذكر المصدر)