الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين
وبعد
فهذه سلسة حلقات متتابعة نعيش فيها مع أنبياء الله ـ عليهم السلام ـ نتعرف فيها على حياتهم ، ونتأسى فيها بأعمالهم ، فهم الأنموذج الذي أعده الله للبشرية لتسير على منواله إن أرادت أن تؤدي رسالتها التي خلقت من أجلها ، رسالة الاستخلاف في الأرض وتعميرها ، وتكون الثمرة سعادة وراحة في الدنيا وفوز في الآخرة ..
ولنبدأ بآبي البشر آدم عليه السلام ، وهو أول إنسان وجد على ظهر الأرض ، وكان خلقه أو انتهاء جمعه وخلقه يوم الجمعة ، وكما بدأ خلق الإنسان يوم الجمعة فإن نهايته ستكون بقيام القيامة في هذا اليوم ..
ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى هذا اليوم بمثابة العيد للموحدين به ، يجتمعون فيه في ساعة صلاة الجمعة يذكرونه ، ويتفكرون في حالهم ، كيف كانت بدايتهم ، وكيف ستكون نهايتهم ، يتفكرون في مصيرهم ومآلهم ، يتذكرون فيه وظيفتهم في الأرض والغاية من خلقهم ، ينصتون فيه إلى الذكر الحكيم والموعظة التي يلقيها على مسامعهم الخطيب ، ثم ينصرفون في الأرض مواصلين أداء رسالتهم ، طالبين رزق ربهم كما أرشدهم المولى سبحانه وتعالى في قوله :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [الجمعة : 9 ، 10]..
وقبل أن يخلق الله سبحانه وتعالى آدم على الأرض عرض الأمر على الملائكة ، فقال عز وجل : "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً " [البقرة : 30] وأعلمهم سبحانه وتعالى بطبيعته ووظيفته في الأرض والغاية من خلقه ، فكان تعقيب الملائكة بعد أن عرفوا طبيعة خلقه وكيف سيعيش في الأرض أن ذلك لا بد أن يقود ذريته إلى التنافس والتقاتل والتحاسد والإفساد في الأرض ، فقالوا:" أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" [البقرة : 30]) ..
والله سبحانه وتعالى مالك الملك والأمر أمره ، والكل له عبيد بمن فيهم الملائكة المقربين ، ورغم ذلك أعلمنا سبحانه وتعالى منذ اللحظات الأولى لخلق الإنسان أنه استمع لرأي الملائكة المقربين في أمر خلقه ليكون النظام الأول الذي تقوم عليه حياة الإنسان في استخلافه هو المشورة ، سواء أكان ذلك بين الرجل وأهل بيته أو بين الرجل وأولاده ، أو بين القائد ومن تحت قيادته ، أو بين الأمير ومن تحت إمرته ، أو بين الملك ومن تملك عليهم ، أو بين الرئيس ومن ترأس عليهم .
كما أن الله عز وجل أشار إلى أن سير الإنسان في الأرض على غير نهجه وعلمه سبحانه وتعالى سيؤدي إلى الإفساد في الأرض وسفك الدماء كما جاء على لسان الملائكة ..
وكم رأينا وما زلنا نرى ونسمع كل يوم عن الدماء التي تسال ، والكوارث التي تقع ، والأوبئة التي تحل ، والأمراض التي تنتشر ، والتقاتل والتباغض والتصارع بين الناس رغم القوانين التي سنها أساتذة القانون وفقهاء الدساتير ، والتي لم تنجح يوما في الحد من الجرائم التي عمت الآفاق في الشرق والغرب ؛ وما ذلك إلا لأن علم واضعي تلك القوانين مهما ترقى لن يصل إلى التعرف على حاجات البشرية إلا إذا رجعوا لنهج الله سبحانه وتعالى واشتقوا منه مواد دساتيرهم وقوانينهم .
والآن بدأ بعض المفكرين من أبناء الأمم غير المسلمة يتنبهون لتلك الحقيقة ، فها هم ينادون تارة بالرجوع إلى النظام الاقتصادي في الإسلام وترك النظام الربوي ، وتارة بالسعي لتحريم الخمور بعد أن بان لهم أنها أم الخبائث ، وتارة بالمناداة بتطبيق عقوبة القصاص للحد من جرائم القتل بعد أن دلت الإحصائيات على أن تطبيق عقوبة الإعدام في القاتلين قد حدت كثيرا من تلك الجرائم.
وكان خلق آدم ـ عليه السلام ـ أيضا من تربة الأرض التي سيعيش وذريته عليها لتكون حياته متلائمة معها ، وليكون واقعيا في حياته ، فلا يجلب لنفسه نظاما أو ليبتدع لنفسه منهجا غير المنهج الذي يوافق طبيعة خلقه ، وللقارئ أن يتأمل في هذا الأمر وينظر في الأخطار التي صارت محدقة بنا في الكون نتيجة التصادم مع مجريات الطبيعة بعد الطفرة العلمية غير المقننة في العصر الحديث ، فمرة نسمع عن ثقب في الأوزن ، ومرة نسمع عن خطر التصحر ، ومرة نسمع عن الانبعاث الحراري ، ومرة نسمع عن الزروع المعدلة وراثيا وخطورتها .
ثم إن الله سبحانه وتعالى نوع في خلق ذرية آدم عليه السلام ليتلاءم كل منهم مع المنطقة التي سيعيش فيها ، بحيث يتكيف مع جوها وطقسها وعاداتها وتقاليدها ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، منهم الأحمر والأسود والأبيض والأصفر ، وبين ذلك ، والسهل والحزن ، والخبيث والطيب » صحيح ابن حبان - (25 / 362)..
ولذلك أرى أن مفهوم العولمة الذي يجعل العالم كله كأنه يعيش في بوتقة واحدة ، تعيش بعادة واحدة ، وتتقيد بتقاليد واحدة ، وتأكل وتشرب وتلبس وتعيش على نمط واحد ، دون النظر لظروف حياتها وطبيعة بيئتها ، هي أسوأ ما حل بالبشرية في العصر الحديث ..
وقد كان المسلمون يوم أن كانت لهم السيادة ـ رغم أن دينهم كان واحدا ، ودستورهم ومصدر تشريعهم وهديهم كان واحدا ـ كان يراعون الفوارق بين الشعوب في اللغات والعادات والتقاليد ، وصارت كل أمة تعيش حسب عاداتها وتقاليدها التي لا تختلف مع روح الإسلام وشرعه ، وغدت قاعدة ": المعروف عرفاً، كالمشروط شرطاً " متبعة لدى الجميع ..
ولكن هذه العادات والتقاليد والأعراف لا تتسع لتفصل كل شعب عن الآخر فصلا تاما ، وإنما فقط تحافظ له على كيانه ، ويبقى للجميع دين واحد وهو الإسلام الذي قال عنه المولى سبحانه وتعالى : " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ " [آل عمران : 19] فمع تنوع التربة التي خلق منها آدم وذريته فإن الله مزج بينها حتى صارت كأنها جزء واحد كما قال سبحانه وتعالى : "إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ "[الصافات : 11] وقال : " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر : 26].
فالطين اللازب: هو الطين الذي التزب بعضه ببعض، فإذا تُرك حتى تغيّر وأنتن صار حمأً مسنوناً، يعني منتناً، ثمّ صار صلصالاً.
ثم إن الله سبحانه وتعالى اختار له هذا الاسم ( آدم ) المشتق من أديم الأرض ، وأطلقه عليه ليذكره ومن يأتي بعده من ذريته بهذا الأصل ، فلا يتعالى ولا يتكبر ولا يتأله في الأرض التي هو جزء منها ..
ومع إنه سبحانه وتعالى يقول للشيء كن فيكون إلا أنه قد خلق آدم وتركه الله بعد خلقه 40 يوما قبل أن ينفخ فيه الروح ، وأرى أن ذلك حدث ـ والله أعلم بمراده ـ كي يعلمه وذريته التأني وعدم العجلة في إعداد الفرد وتكوينه قبل أن يتولى مهامه ورسالته على الأرض ، وحتى في أمور العبادات يترك الله سبحانه وتعالى الإنسان منذ ميلاده إلى سن البلوغ خمس عشرة سنة ـ تزيد أو تنقص ـ دون أن يحاسبه على ما يصدر منه من أفعال وأقوال .
وبعد أن أتم الله سبحانه وتعالى فيه النفخ بالروح أحاطه بهالة من التقدير فأمر الملائكة الذين هم أكرم الخلق عليه فقال عز وجل : " فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ " [الحجر : 29، 30]..
بل ويبدو أن هذا الأمر لم يقتصر على الملائكة بل شمل معهم مخلوقات أخرى ، ولكن الخطاب اقتصر على الملائكة على سبيل التغليب ، بدليل أنه جاء في آية أخرى قول الله عز وجل : " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ " [الكهف : 50] فالأمر بالسجود قد شمله رغم أنه كان من الجن وليس من الملائكة .
وكان امتناع إبليس عن المشاركة في تقدير آدم وتكريمه سببا في كفره وفسقه وطرده من رحمة الله سبحانه وتعالى ؛ وفي ذلك أبلغ دليل على أن امتهان الإنسان والاعتداء على حقوقه وكرامته وآدميته يعد جريمة كبرى عند الله سبحانه وتعالى لا يمكن التساهل في شأنها ، هذا من جانب ، ومن جانب ثان فإن كون إبليس معترفا بوحدانية الله عز وجل لم يفده شيئا أمام معصيته التي لم يتب منها ، وكذلك من يصرون على معصيتهم وآثامهم ، ويدعون أنهم مؤمنون موحدون بالله سبحانه وتعالى لن يفيدهم إيمانهم شيئا إلا إذا قرنوه بالتوبة والعمل الصالح ، ومن جانب ثالث فإن تعلل بعض الناس في عدم تنفيذ أمور الله سبحانه وتعالى بأنها تخالف عقولهم وفكرهم وعلمهم ، ومحاولة تبرير عدم التزامهم بأوامر بذلك لم ولن تنفعهم أمام الله عز وجل ؛ لأن إبليس لما لامه الله على عدم الامتثال للأمر وقال : " يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ " [ص : 75] رد بقوله : " أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ " [ص : 76] فلم يقبل الله سبحانه وتعالى هذا التعليل الخاطئ ، وقال له عز وجل : " فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ " [ص : 77 ، 78]..
فليحذر الذين يتكبرون بفهمهم وعقلهم وما أوتوه من علم عن سماع الحق ـ بحجة أنهم أرفع شأنا من علماء الدين ـ أن يصيبهم ما أصاب إبليس الذي حسب أن إحساسه بأنه خير من آدم مسوغ بألا ينفذ أمر ربه ، وقد قال الله عز وجل : " لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص : 85]..
وبعد أن أتم الله سبحانه وتعالى خلق آدم ونفخ فيه الروح خلق منه زوجه حواء ، ولم يشأ الله سبحانه وتعالى ـ وهو أعلم بمراده ، أن يخلق حواء من الطين مثل آدم حتى لا تبدو المرأة كأنها كيان مختلف في ذاته عن الرجل ، وإنما أراد أن تكون جزءا منه ، وكلاهما ( الرجل والمرأة ) يكونان كُلا واحدا ، والعلاقة بينهما علاقة تكامل وليس علاقة تناظر .. وهذا ينبهنا إلى أن الرجل هو الأصل وأن المرأة تبعا له ..
ومن يريدون أن يجعلوا المرأة في مقابل الرجل ، وينادون أن تكون ندا له ، ويسعون لشحذ المنافسة بينهما سيضرون بالرجل والمرأة على السواء .
ومن ينادون بمساواة المرأة بالرجل في الأمور التي يختلف فيها الرجل عن المرأة أو المرأة عن الرجل لا يعلمون شيئا عن اختلاف طبيعة كل منهما ، فالرجل خُلق أولا من طين وأن هذا الطين ترك حتى صار صلبا صلصالا قبل أن تنفخ فيه الروح ، فطبيعته لذلك تحمل القوة والصلابة ، أما المرأة فخلقت من جسده بعد أن نفخت فيه الروح وصار كائنا حيا يحمل الإحساس والرقة التي هي الأصل في تركيب المرأة ، كما أن خلقها من الضلع الذي يسهل كسره ليدل على سهولة السيطرة عليها من الرجل ، وأنها تحتاج في المعاملة إلى شيء من الدقة والحذر ، وإلا انقلب الأمر إلى الضد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء .." الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم - (3 / 133)..
ولو التزمت البشرية بهذا الحديث الشريف ، وطبقت إرشاداته في حياته لاستراحت من ملايين الجرائم التي ترتكب بين الجنسين كل عام ، ولوفرت على نفسها المليارات التي تنفق على المحاكم للبت في آلاف القضايا التي تعرض عليها كل يوم بسبب تلك الجرائم .
وجاء آدم وزوجه على الأرض بعد خلقهما وهما لا يملكان شيئا كما ينزل الطفل من بطن أمه فهيأ الله سبحان وتعالى لهما الجنة قبل أن يخلقا يأكلان منها حيث يشاءان ، كما قال عز وجل : " وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا" [البقرة : 35] .. فالله عز وجل لا يخلق نفسا بشرية ولا غير بشرية إلا بعد أن يخلق رزقها ، كما أشار في كتابه الكريم حيث قال : " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " [هود : 6] ولذلك فإن خوف الناس من نفاد الرزق هو خوف في غير محله ، والزعم بأن استمرار النسل في الزيادة سيتسبب في كارثة زعم كاذب ؛ لأن الله قدر في الأرض كل أرزاق المخلوقات يوم خلقها كما قال عز وجل : " وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ " [فصلت : 10] ..
فرزق الجميع مستقر في الأرض ، ولكن المشكلة أن بعض البشر لا يرضون برزقهم ويقنعون به ، وإنما يطمعون في رزق الآخرين بالسلب والنهب والسرقة والاحتيال ، حتى صار من البشر من يستحوذ على المليارات من أرزاق غيره بدون وجه حق ، ومن هنا تنشا الطامة ، وليس من كثرة البشر ؛ وإنما لأن هذا السلوك كسر القاعدة التي حددها الله في قوله : "سواء للسائلين " ..
وأباح الله سبحانه وتعالى لآدم وزوجه كل ما في الجنة من طيبات ، ولم يحرم عليه إلا ثمار شجرة واحدة ، فقال عز وجل : " وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ " وذلك لاختباره في السمع والطاعة له من جانب ، ومن جانب آخر لأن هذه الشجرة ربما كانت ثمارها ضارة به ، حيث كانت شجرة الحنظل المر كما يقال ، وفي ذلك إشارة إلى أن دائرة الحلال الطيب واسعة جدا ، وأن المحرمات قليلة جدا ، وتقتصر على ما يضر بالإنسان فقط ..
ولكن الشيطان خدع آدم وزوجه وضللهما ، وجعلهما يتركان كل الطيبات الحلال ويحومان حول ثمار الشجرة المحرمة حتى خالفا أمر ربهما وعوقبا بالإخراج من الجنة ونعيمها ليعيشا وذريتهما في الكبد والمشقة والتخاصم والتباغض في سبيل الرزق " فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ " [البقرة : 36]..
وإلى الآن ما زال كثير من البشر رغم اتساع دائرة الحلال إلا أنهم يضيقون على أنفسهم ، ويحومون حول الحرام حتى يقعوا فيه ، وفي بعض البيئات الآن تركت كل دوائر الحلال في المأكل والملبس والمشرب والمسعى فلم يعد أمامهم سوى الحرام ، فهذه ملابس النساء صنعت كلها لتكون من ترتديها شبه عارية ، وغدت من تطمع في الاحتشام لا تكاد ترى في أسواق الملابس ما يناسبها ، وهذه عادات وتقاليد الناس في الأفراح والحفلات امتلأت بالمآثم ، وها هي دائرة الزواج تضيق بالتكاليف الباهظة حتى أمست لا يتحملها من الشباب إلا القليل ، وفي مقابل ذلك تسهل سبل الفاحشة ، وها هي الرشاوى والاختلاسات صارت كأنها أعراف لا يتحرج المرء عن المطالبة بها ، وإن سمع الناس من يتكلم عن الحرام قالوا : حرمتم علينا كل شيء ، ليس أمامنا في الحياة غير ذلك ، لم نجد شيئا حلالا ، وصدقوا في ذلك ، فلم يجد أمام الكثير منهم شيء حلال ، ولكنهم هم الذين تركوا دائرة الحلال الواسعة خلف ظهورهم ، وحاموا حول الحمى ، وقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : " ومن وقع في الشبهات ، وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه » . شعب الإيمان للبيهقي - (12 / 226)
ولقد أسكن الله سبحانه وتعالى آدم وزوجه لما خلقهما على الأرض جنة فيها كل سبل الحياة المنعمة ، حيث قال عز وجل عنها لآدم : "إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى " [طه : 118 ، 119] ولكن الشيطان الحقود له لم يتركه يهنأ بهذا النعيم ، فأتى إليه وزجه كما حكى القرآن الكريم " فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ، فَأَكَلَا مِنْهَا " فكانت النتيجة المباشرة لتلك الطاعة العمياء لإبليس دون التفكر في العاقبة أن " َبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ " [طه : 120 ، 121]..
ومن العجب أن كثيرا من البشر إلى الآن رغم علمهم بأن الشيطان يقودهم باتباعهم له إلى الهلاك إلا أنهم ما زالوا يستمعون إليه وربما رءوا في وسوسته طريقا إلى الملك والسعادة والتخليد في الدنيا ، بل الأدهى من ذلك أنهم قد يرون في اتباع منهج الله سبحانه وتعالى حرمانا لهم من كل طموحاتهم ..
لقد حسب أبوهم الأول أن في اتباع أمر الله بعدم الاقتراب من الشجرة المحرمة حرمان له من الخلود في الدنيا فعصاه ، والآن هم يرون في الالتزام بنهج الله وشرعه تقييدا لحريتهم ، بل يبالغ البعض فيرون في اتباعه تعطيلا لمسيرة حياتهم وهم طائفة اللادينيين المتخفين تحت ستار العلمانية ..
وحال هؤلاء ينطق بما جاء في القرآن على لسان الشيطان الرجيم : " مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ " [الأعراف : 20] ..
وقد يظل الإنسان حازما في أموره ، منزها لنفسه عن الآثام ، ولكن بإغواء من المرأة ( أي امرأة زوجة أو غير زوجة) يهوى إلى الدرك ، فقد ذكر ابن الأثير أن انفعال حواء لوسوسة الشيطان كان أعظم، فدعاها آدم لحاجته، فقالت: لا إلا أن تأتي ها هنا، فلما أتى قالت: لا إلا أن تأكل من هذه الشجرة .. فأكلا منها ... (الكامل في التاريخ - (1 / 11)) ..
ويبدو أنهما كانا في تهيأ قبل ذلك فلما أكلا من الشجرة وارتكبا المعصية حدث لهما ما يشبه عدم الاتزان في الحركة ، واضطراب جعل عوراتهما تظهر ، كما حكى القرآن الكريم " فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا " [الأعراف : 22] ومن هول المفاجأة لما يجدا ما يتستران به غير ورق الشجر ؛ حياء من الله سبحانه وتعالى أن يراهما على تلك الحالة المزرية ،" وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ "[الأعراف : 22] ..
وجاءهما العتاب من الله عز وجل : " ألَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِين " [الأعراف : 22].. فكان ردهما "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ " [الأعراف : 23] ... فلقنهما الله عز وجل كلمات مما يوجب المغفرة " فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " [البقرة : 36] ..
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال لماذا لم يبق الله عز وجل آدم وزوجه في الجنة بعد توبتهما ، ولعل الإجابة ـ والله أعلم دون سواه بمراده ومشيئته ـ أنه قضى أن تكون عاقبة المعصية بادية للعيان أمام ذريته من بعده ؛ ليعلموا أن الأمر جد لا هزل فيه .
ثم منح الله سبحانه وتعالى آدم فرصة ليعود إلى الجنة والنعيم الأبدي هو وذريته مرة أخرى ، ولكن بعد أن يكون الاختبار هذه المرة بين نصب الحياة وكدها ، " قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة : 38 ، 39]..
ومنذ ذلك الحين والله يذكر ذرية آدم بمآل المعصية التي وقع فيها أبواهم ، ويناديهم " يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف : 27] ورغم ذلك يبقى البعض متبعا لعدوه الشيطان ، مقدما طاعته على طاعته ربه عز وجل .
ولما كان آدم ـ عليه السلام ـ وقت خلقه يعد جديدا على الأرض لا يعلم عنها شيئا فإن الله سبحانه وتعلى عرفه على كل ما حوله ، وعلمه مبادئ الأشياء التي يستنبط منها ما يحتاج بعد ذلك من معارف جديدة ، فقال عز وجل : " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " [البقرة : 31] وقد فاق بعلمه الذي تلقاه عن الله سبحانه وتعالى ما علمته الملائكة من خلال ملاحظتهم التي ربما امتدت آلاف السنين ، وقد جعلهم الله يقرون أمام آدم بهذا الأمر فقال عز وجل : " أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة : 31 - 34]..
فقد يحصل الإنسان باستنباطه من العلوم ما يحصل ، ولكنه لن يغنيه عن العلم الإلهي الذي يُتلقى عن الوحي ، ولذلك نجد بعض المتخصصين في العلم التجريبي ربما قضى أحدهم عمره في البحث ليصل إلى نظرية معينة ثم يفاجأ أن تلك النظرية قد ورد ذكرها في القرآن الكريم ، ولا يحتاج التعرف عليها غير دقائق من التدبر في الآية التي أشارت إليها ..لذا ينبغي على العلماء أن يسلموا بمحدودية علمهم أمام وحي الله سبحانه وتعالى كما سلمت الملائكة .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : موقع التاريخ